دَعُوني أصرّح بأنّ هذا الموضوع قد ابتلعني آخر هذه الشهور، وهو يأخذ منّي كلّ يومٍ قضمة تلو الأخرى، بشكل متتابع ومضجِر، والأكثر عبثًا بلا توقّف. أحاول أن أخبركم أنّني أحتسي من كوب الماء بينما أكتب هذه الحروف، كما يرتشف كُتّابنا الكبار كؤوس القهوة الطاعنة في ضرب الخيال الخلّاق كي يكتبوا في فنّ عظيم هو الأدب؛ قد يبدو الوضع مثيرًا للاشمئزاز، لأنّني أحاول صياغة مقدّمة غير مملّة لموضوع أجهل بدايةً لهُ، وأعرف يقينًا أنّ كوب الماء (وحتّى القهوة) لن يُساعدا في إحداث أيّ خربشةٍ نافعة على الورق، لكن رغم ذلك ولكي أكون شخصا «طموحا» سأحاول البداية.

إنّ الأوّلين كثيرا ما عاشوا البؤس، لكنّهم لم يعيشوا ما عشناه نحن – الجيل الجديد – من بؤس جديد هو الآخر. تُستحدث الأزمنة مع مرور التاريخ ويأتي معها النافع والفاسد، حدوثُ هذا الأمر طبيعيّ جدّا ورغم أنّ تصنيف الصالح من الطالح قد يكون نسبيّا وقائما على كثيرٍ من النقاط التي تختلف باختلاف المجتمعات والثقافات (طبعا هنا أخصّص في بعض المواضع)، إلّا أنّ التعريج على مشكلة زمننا الفاسدة (التي لم أطرحها بعدُ) لا يختلف فيها اثنان - اثنان أو جماعة لا يهمّ ذلك حقّا. لقد فكّرتُ لزمن يبدو على أنّه طويل، في كلّ الساعات التي تضيع في أيّامنا هذه، تضيع بشكل مخصّص على الهواتف النقّالة، التي تنقل عقولنا معها كذلك وتُذهِب عنّا اليقظة كسكر حديث لم يجرّبه أجدادنا؛ يبدو الموضوع مستهلكا وممّلا، أنا أوافق نفسي حتمًا في هذه النقطة الهامشيّة، لكنْ رغم ذلك يبقى مهمّا لأنّه في نهاية المطاف يتعلّق بشكل مباشر بحياتنا التي تغطس في الوحل، بما يُسمّى: الإدمان.

إنّ مواقع التواصل الاجتماعيّ صُمّمت بقلم ومسطرة من أجل أن ندمنها، وأن لا يمرّ علينا يومٌ واحد بدون أن نشعر بالحنين إليها، لأنّ فيها إشباعا لا يُوصف للغذاء العقليّ، بتحفيز المتعة اللحظية المتجدّدة بنفسها إلى لحظات عديدة، حتّى تجتمع اللحظة مع الأخرى بمفعول الزمن السحريّ ونجدنا في الأخير فارغين من كلّ شيء، من أنفسنا خاصّة، لأنّنا ببساطة كنّا نتعاطى بنهم كلّ شيء، غير الحقيقة التي لا تُعرض على سطح الشاشات المميتة. لا أعتقد أنّ أحدًا من الطلّاب - الذين كتبوا عن إيجابيّات وسلبيّات التكنولوجيا - لم يورد في نصّه تعبيرَ: «سلاحٍ ذِي حدّين» واصفًا بذلك اجتماع الخير والشرّ في طعنة نجلاء واحدة، وعلى الفارس حامل السيف اختيار فعله بتلك الطعنة، إمّا أن يحييَ أو يميت (نعم، لا تستغرب قد نحيي بالطعن، سأدعك تفكّر في هذا)؛ لقد كنتُ – طبعا وبدون فخر – واحدا من مستعملي هذا التعبير المكرّر، حينما كبِرت قليلا واندمجت مع مجتمعي أكثر (خاصّة مع المراهقين)، عرفتُ أنّنا طعنّا أنفسنا بالحدّ القاتل فقط، وتركنا الحدَّ الآخر ساقطا في الأرض مدرَّجا بالتراب، أو منسيّا تحت ردائه.

وللمفارقة العجيبة، قد تجد الواحد منّا يسعى كي يستفيد من هذه التكنولوجيا الجديدة، فيشقّ طريقه على سبيل المثال إلى YouTube كي يأخذ محاضرته، لكنّه سرعان ما يجد نفسه بين كلّ ما هو غير نافع، الأمَرُّ من ذلك: يلقى ذاته غارقا بين أشياء لا تعجبه، مقاطع يكرهها عن بَكرة أبيها بل يتقزّز من السماع لها؛ حينما ينتهي، يلمّ أغراضه بدون أن يفعل ما كان يُرِيد، ويسحب معهُ فوق ذلك أذيال الخيبة. يفقدُ الواحد منّا كرامته كلّ مرّة بعد حدوث مثل هذا الحدث، الذي سيتكرّر فيما بعد ويصبح هو العهد الذي يرتبط بنا وهكذا تُصنع عادة شريفة جديدة تقضي علينا حتمًا وعلى أعمالنا المنشُودة. كنتُ دائما أصف ما يحدث لنا بـ «الغرق»، الغرق في مواقع التواصل الاجتماعيّ، الغرق في الإباحيّات، الغرق في التفاهة العظمى، التي تُصنع من أجلنا نحنُ.

أدعو دائما زملائي إلى ترك مواقع التواصل الاجتماعيّ (خاصّة فيسبوك وإنستغرام) من ناحية كونها عندهم الطبقة الأولى للحديث والتشاور؛ لقد تيقّنتُ بعد تجربة شخصيّة أنّ المحادثات الفوريّة Chats، قد قتلت عندنا طرق الحديث – أوِ الكلام. لم يعد باستطاعتنا التعبير عن أفكارنا في الواقع، نحن لا نعرف حقّا سبل ترتيب المعلومات التي تحملها عقولنا وصياغة جمل مفيدة ومُسدّدة تقضي الوطر، نتلعثم في غالب الأحيان، نبقى كالحيارى في ظروف كان يجب علينا فيها الدفاع عن أنفسنا؛ لقد اعتاد أغلب شباب هذا العصر الحديث بالكلمات المكتوبة، الرسالات الفوريّة القصيرة، الضحك بالرموز التعبيريّة الصفراء، ممّا جعل الأحاديث الحقيقيّة والنقاشات المستعرة تبدو كهاجس يجب تجنّبه وتغيير الطريق عن لافتاته المخيفة.

تقودنا هذه الفكرة الأخيرة حتما إلى نقطة أخرى ذاتِ أهمّيّة بالغة، أقصد بهذا فكرة التشتّت، مثّلتُ لكم سابقا بذلك الطالب المسكين، الذي ينتقل من درسه إلى لعبه بخفّة فأر يهرب من مفترسه، أعتقد أنّ هذا المثال يصلح بشدّة في هذه الفقرة كذلك، لأنّ عمليّة التنقّل هي ذاتها صانعة التشتّت وطاردة التركيز. لقد وجدنا أنفسنا – أو أوجدناها – في بوتقة عظيمة من التجديد، أنبوب غير منتهٍ من الأفكار المتغيّرة كلّ ثانية، هذا ما يحفّز عقولنا على التغيير المستمرّ، لأنّها بطبيعتها تحبّ ذلك، وهذا هو الأمر نفسه الذي يوقعنا في مصيدة عدم الانتباه، تلك العَشوائيّة القاتلة التي تجعلنا نتعرّف على الكثير من الأشياء الجديدة بلا فائدة، لأنّنا لا نثبّتها، ولا نسعى حتمًا لذلك. لو كنّا نملك مجرّد ملاحظة بسيطة على مبدأ أغلب تطبيقات التواصل التي تحيط بنا في هذا العصر، لوجدناها تقوم على فكرة المحتوى القصير والمتجدّد، لا أكاد أتخيّل حجم الصداع والكيمياء التي ستُفرز بين أحشية العقل المنزلق، أثناء غوصه الشديد في ذلك الكمّ الهائل من المقاطع السريعة والمتغيّرة بتلقائيّة عجيبة، إنّ مثل هذه المواقع والتطبيقات تتغذّى علينا وعلى أوقاتنا، تُسارِع من أجل شرب دمائنا حتّى تجفّ سواقينا من مياه الأوقات والأفكار.

كنتُ سآخذ نفسًا جديدا، وأتمّ حديثي عن التشتّت، أحكي لكم ربّما عن ذلك الشخص الذي يترك صفحات كتابه من أجل أن يتابع ما يحدث على فيسبوك، بسبب إشعار آتٍ من قعر الجحيم ليخطف لبّه، وكنتُ ربّما لأربط بين هذا الرأس ورأس موت الذائقة بين أواسط القرّاء (وغيرهم في كلّ المجالات)، أقصد بذلك فكرة توحيد الآراء على الرائج من القيم والأفكار، وتجنّب تبنّي أشياء جديدة – قد تكون منطقيّة جدّا، وفوق ذلك صادقة – خوفًا ممّا هو سائد، فلا يحقّ لك في الأخير أن تقول أنّ هذا الكتاب سيّئ، لأنّ أمّةَ قرّاءِ الفيسبوك (والإعلانات المموّلة) قد أجمعت على جودته (الرديئة؟). إذًا، كنتُ كغبيّ سأفصّل آرائي في مثل هذه الأمور، لكنّ طائفا عجائبيّا من العالم الآخر تربّع على لوحة المفاتيح وهمس في أذني بالتوقّف. وللأسف، لستُ مضيِّعا لمثل هذه الرؤى فأنا شخصٌ شديدُ الإيمان بها، لذلك سأذعن للطائف كصبيّ غير متمرّد صرخت في وجهه أمّه الحنون متكدّرة المزاج.

وقبل أن أذهب، وعلى سبيل الملاحظة السريعة أريد أن أقول لكي تخرس قليلًا بعض الأفواه التي لا تجيد غير الحديث: نحنُ لا ننسى طبعًا كلّ الإيجابيّات التي تركتْها لنا التكنولوجيا، نحنُ فقط هنا نشير إلى وجوب النظر إلى كلّ الأمور السيّئة التي تحدث في أيّامنا، إلى ساعاتنا الضائعة بلعنة من الأرض، والأهمّ: إلى مدى الدم المنثعب من ذلك الأخدود الذي شقّ صدورنا، بطعنة واحدة، من حدّ واحد للأسف، رغم أنّ: «السلاح ذا حدّين».