تخنقنا الكلمات في لحظات، تتراكم علينا مآسي الحياة حتى تخنقنا هي الأخرى. ضغط نفسي متراكم، حجر على قلب، و عقل أرهقه التفكير. أو ربما سعادة لا توصف، تملأ القلب، تعطل العقل و ترتب الحروف أمامك أن الحياة على هذه الأرض لا تزال ممكنة.
و ها هي ذي الكلمات تتراكم مرة أخرى، تدغدغ حبالك الصوتية حتى تطل على الوجود، لكن و إن كانت كلمات فلا تجد كلمات تعبر عنها، تَرتبك فتخرج في صوت عجيب يسمى: صرخة.
ليس غريبا ذلك المشهد الذي نراه في الأفلام حين يصعد الشخص إلى مكان مرتفع (جبل مثلا)، فيطلق لصوته العنان في صراخ يعبر عن حزن دفين أو فرحة قصوى.
و لعلك شاهدت تلك اللوحة الشهيرة ''الصرخة''، فكما عودنا الفن تعبر هذه اللوحة أيما تعبير عن عمق الشخصية الإنسانية في أشد حالتها (جنونا). تلك بدت لي بالأحرى صرخة رعب و ذهول مفزع.
و لتصرخ فأنت بلا شك تحتاج لصوت، لن أقول صوت قوي، فلا تهم قوته ما دام خارجا من أعماق القلب يترجم خلجاته.
لكن أن تصرخ بلا صوت؟ أن تصرخ بأعلى صوتك دون صوت؟؟ و ما يدهش أكثر أن يسمع العالم صراخك.
أعرف أن ما أقوله لا يهمك و تجده تافها، أأحتاج الآن لمن يعرّف لي الصرخة؟ إنها تأتي في وقتها و تُعرّف نفسها بنفسها. أعرف أن كلامي لن يضيف لك شيئا، لا فائدة فيما ستقرؤه. أليس كذلك؟ حسنا يمكنك الآن الذهاب. هذا الكلام لي أنا أزعجني به فلا تهتم.
أوه، كنت أتحدث عن الصراخ بدون صوت:
أن تجعل أعمالك تتحدث عنك، فسيرى الكل صرختك (أجل، أجل، أقول سيرى و ليس سيسمع، أليست صرخة دون صوت؟)
هناك من يتحدث كثيرا، مثلي، ثم تصدم بأنه لا شيء، كلام فارغ. و هنالك ذلك الصامت، الذي لم تنتبه لوجوده حتى فتفاجأ به، أعماله تتحدث بدلا عنه. و تقف مبهورا، من أين خرج؟
تعال أيها التاريخ، لا تخف، اقترب مني، فأنا أريد أن أضمك حجة- أثقل مني- لما أقول. إن هذا التاريخ نفسه الذي تعرفونه لا يخلد سوى أسماء أولائك الذين صرخوا بدون صوت، فتحدثت عنهم أعمالهم في صفحاتك أيا تاريخ.
أعرف ما تقوله الآن (أنا لا أعرف أي شيء، لا تصدقني):
لكن هذا التاريخ نفسه سجل أقوال العظماء.
توقف، توقف هناك. لقد سجل أقوال العظماء. متى آخر مرة طالعت فيها قواعد النحو؟ دعني أذكرك. ''العظماء'' هنا مضاف إليه جاءت خصيصا لتعرف لنا ''أقوال''. فالتاريخ سجل أقوال العظماء و ليس ''أقوال'' كنكرة. و هنا السؤال يطرح نفسه، كيف صاروا عظماء؟
عندما صرخوا بدون صوت، سُمعت كلماتهم.
فإن كان الصراخ، إفلاتة لشعور لم تستطع كبته، ضغط عليك و أثبت نفسه فخرج صوتا مبهما يعني الكثير، صراخ يخفف عليك و يعيد توازنك. فإن الصراخ بدون صوت . .
التعليقات