قرأت مؤخرًا رواية "الحب في زمن الكوليرا" للكاتب غابرييل غارثيا ماركيز، وتساءلت في نفسي: هل الحب حقًا أعمى كما يُقال؟ الرواية تروي قصة حب استمر طوال العمر، يتحدى الزمن والظروف المتغيرة، فالحب هنا ليس مجرد شعور عابر بل هو مزيج من الصبر والرغبة والتحدي في مواجهة الصعاب، وما لفت انتباهي هو كيف يعيد ماركيز تعريف مفهوم الحب الذي لا يقتصر على اللحظات المثالية، بل يتسق مع التجارب الإنسانية المعقدة. هل تعتقدون أن الحب يجب أن يكون عميقًا ومتفانيًا ليصمد أمام الزمن، أم أن للحب أبعادًا أخرى؟
الحب الأعمى، هل حقًا يكون كذلك؟
يحدث كثيراً أن يكون الحب أعمى: فيعشق المحب محبوبه مهما كانت به عيوب في نظر الناس أجمعين، بل ويتحدى كل الظروف والأشخاص من أجل محبوبه، والتاريخ زاخر بهذه القصص.
كانت لكل قصة حب من هذه القصص ظروف مختلفة فلا نستطيع أن نجد عامل مشترك بينها في أحوال الأشخاص أو الأحداث، لكن هناك فرق بين صمود الحب أمام الزمن في حالة كان المحبون متباعدين، وفي حالة كان المحبون يعيشون معاً.
لكن ألا تعتقد أن هذا النوع من الحب الممتلئ بالعيوب سيأتي عليه اليوم الذي يتبدد فيه كل شيء؟ فالحب الأعمى، مهما كان جميلاً في لحظته، قد ينكشف مع مرور الوقت على أنه مجرد وهم، وقد يصطدم الواقع بالاختلافات التي كانت مخفية وراء العواطف الجياشة، ربما في البداية نتمسك بالحب ونعشقه بكل عيوبه، لكن مع مرور الوقت قد نكتشف أن هذه العيوب لا يمكن التغاضي عنها إلى الأبد.
لم أقرأ الرواية، لكن على ما يبدو أن المحب لم يتزوج من محبوبته، لأن الزواج يجعل الإنسان أكثر عقلانية ويكشف له كل المشاعر المختلطة.
فالإنسان قد يتمسك في كثير من الأحيان بالحب إذا لم يجتمع مع من يحب لأنه لم يحقق هدفه ولم يصل لمراده وهذا ما حصل مع الكثيرين عبر التاريخ، مثلا عنترة بن شداد لو تزوج عبلة أكان سيتكلم عنها في أبياته بتلك الحرقة؟ طبعا لا وربك في الغالب لن يذكرها أبدا، وهل قيس كان سيجن لو تزوج ليلى؟ لا لن يجن، لم نسمع يوما أن رجلا جن عند وفاة زوجته، فعدم تحقيق الرغبة والوصول للمحبوب هي من تبقى شعلة الحب وليس الحب نفسه والله أعلم
لا أعتقد ذلك، إذا كان الحب مجرد شعلة تشتعل بسبب الفقدان، فهذا يعني أننا نرى الحب كصراع للوصول إلى هدف أو تحقيق رغبة معينة، وهو ما يقلل من قيمته الحقيقية، فالحب ليس مجرد انتظار للغائب أو التعلق بما لا يمكن الوصول إليه، بل هو شعور يتعزز من خلال التفاهم المتبادل والوجود المشترك والاحترام بين الطرفين، والحب الحقيقي لا يعتمد على المعاناة أو الغياب، بل على العلاقة المستدامة والاتصال الحقيقي بين الشخصين، حيث يكون التقدير والمشاركة هما الأساس، لا الشعور بالألم أو فقدان الشيء.
الحب العميق قد يصمد، لكنه ليس الوحيد القادر على ذلك. هناك أنواع أخرى من الحب قد لا تتطلب التضحية المطلقة، بل تقوم على التفاهم والنمو المشترك. أحيانًا، البقاء مع شخص ما ليس لأنك انتظرته لعقود، بل لأنكما قررتما أن تستمرا معًا رغم كل شيء، وهذا بحد ذاته أعظم أشكال الحب.
لكن أعتقد أن الحديث عن الحب بهذه الطريقة قد يغفل عن أهمية التضحية والمشاعر العميقة التي تأتي مع الحب الحقيقي، فالتفاهم والنمو المشترك مهمان لكن الحب الذي يصمد في وجه التحديات الكبرى يتطلب أحيانًا أكثر من مجرد قرارات عقلانية أو رغبة في الاستمرار، التضحية تظل جزءًا أساسيًا من العلاقة لأن القدرة على تقديم التنازلات والتكيف مع الظروف تساهم في بناء علاقة حقيقية ودائمة، والحب الذي يمر بتجارب صعبة ويصمد لا يمكن تجاهل الأثر العاطفي الذي يرافقه.
هناك فرق بين الحب والإعجاب
الإعجاب يشتعل سريعاً وهو مولد الحب فيما بعد ، فيمكن أن تعجب بشخص وتنجذب إليه وترتبط به عاطفيا لعدة أسباب قد يكون بسبب شكله أو شخصيته أو خلافه. لكن حين يختفي سبب انجذابك له قد تجد نفسك لا تحبه وتغيرت مشاعرك تجاهه
أما الحب فيأتي بطيئا وقد يأتي بعد الاعجاب، وهو يولد من المواقف التي اختلفنا فيها والعقبات والتحديات التي واجهناها سويا ورغم ذلك ما زلنا في حاجة لبعض وما زالت مشاعرنا كما هي وما زلنا لدينا الرغبة في استمرار العلاقة.
لو لم يكن كذلك فهو ليس حب، فالحب الحقيقي أساسه العمى، شخص نقابله يقبلنا لا يرى عيوبنا بل يمكن أن يجتهد في حبه فيرى في عيبنا مزايا، لا ينظر الخطأ ويقف عليه بسهولة لا ينظر الخلافات ويقف عليها بسهولة يعمي عينه عن كل مفسد للعلاقة إلا في حالة الشدة والوضوح والتعمد مثلاً.
أما الانتقاد واللوم المتكرر والخلافات فلا أرى أنها حب أو نفترض أنها حب لكن ليس بالحب الحلو الذي يدوم
صحيح لكن الحب الحقيقي لا يعني تجاهل العيوب أو إغلاق العين عن الأخطاء تمامًا، بل هو نوع من التفاهم والقبول المتبادل الذي يتضمن الصدق والاحترام، فهو لا يعني أن نغض الطرف عن الأمور التي تؤذي العلاقة، بل أن نتعامل معها بحكمة ومرونة، ونبني تواصل صريح يساعد على تطور العلاقة، بدلاً من القبول الأعمى الذي قد يؤدي إلى تراكم المشكلات، أي أن الحب الحقيقي يتطلب التوازن بين القبول والتصحيح، وليس الإنكار المستمر للأخطاء.
أرى أن الحب لا يُقاس فقط بالعمق والتفاني، بل بتكامل أبعاده. قد يكون الحب العميق والمستمر مثيرًا للإعجاب، لكنه ليس الشكل الوحيد للحب. هناك حب يتجدد في لحظات قصيرة لكنه يترك أثرًا دائمًا، وحب يعتمد على التفاهم والواقعية أكثر من العاطفة المجردة. كثيرون يعيشون حبًا قويًا لكنه لا يصمد أمام تغيرات الحياة، بينما آخرون يطورون حبًا هادئًا لكنه أكثر استقرارًا.
برأي أيضا أن العلاقات التي تقوم فقط على الشغف تميل إلى التلاشي، أما تلك التي تجمع بين العاطفة والوعي والاحترام المتبادل هي التي تنجح.
التعليقات