منذ وقت، وحرف الفاء في كيبورد حاسوبي لا ينقاد لي بسهولة، أضغط عليه عدّة ضغطات فيستجيب بكسل بعد الضغطة الخامسة، أحتاج أنّ أشتري لوحة مفاتيح جديدة في وقت قريب، لكن حتّى ذلك الحين، أصبحتُ أتجنّب كتابة الكلمات التي تحوي على هذا الحرف، أختار "منذ وقت" بدلًا من "منذ فترة" و"مالَ الناسُ عنه" بدلًا من "نفر الناس منه"

ذكّرني هذا الأمر بفصل قد خصّصه الجاحظ في كتابه البيان والتبيين، لقصّ الأخبار عن اللثغ، وهو نطق حرف الراء غينًا، وقد ذكر شخصًا كان يعاني من هذا اللثغ، وهو واصل بن عطاء، والذي كان إمامًا لجماعة ورئيسًا للمعتزلة، وكان هذا اللثغ يؤذي كلَّ من يتصدَّر هذه الميادين، لأنّ الخطابة من مقوّمات الاقناع واثبات الحجّة والدليل، ولو كان الخطيب ينطق الأميرَ "الأميغ" لمالَ الناس عنه وإن كان أرجحهم عقلًا.

يذكر الجاحظ في هذه القصّة:

ولما علم واصل بن عطاء أنه ألثغ فاحش اللثغ، وإن مخرج ذلك منه شنيع، وأنه إذا كان داعية مقالة، ورئيس نحلة، وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل، وأنه لا بد له من مقارعة الأبطال، ومن الخطب الطوال وأن البيان يحتاج إلى تمييز وسياسة، وإلى ترتيب ورياضة، وإلى تمام الآلة وإحكام الصنعة .... رام أبو حذيفة إسقاط الراء من كلامه، وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه، ويناضله ويساجله، ويتأتى لستره والراحة من هجنته، حتى انتظم له ما حاول، واتسق له ما أمل.

رام واصل أن يُسقط الراء من كلامه، ولقد رامَ شيئًا صعبًا! قرّر أن يُبحر في لغة العرب، ويتعلّم الكثير من نصوصها، حتّى يتجنّب قول هذا الحرف في خطبه، ويستعيض عنه بكلمات أخرى لا تحويه.

ولقد نجح واصل في ذلك نجاحًا لا نظير له، فقد كان ذهنه وقريحته متوقّدتان، وأتقن القاء الخطب من دون الراء، الذي لا تكاد تخلو جملة عربية سليمة منه. والجاحظ قال أنّه لولا أنّ هذا الأمر قد تحقّق واشتهر بين الناس، لما كان يُصدَّق، لأنّه أمر عسر التطبيق جدًا!

ولواصل خطبة بليغة طويلة في أحد المحافل، جانب فيها على طولها حرف الراء، ولم أوردها في النصّ خشية أن يطول الموضوع، ولكم أن تبحثوا عنها فتجدوها.

ويروى أنّ خصوم واصل بن عطاء، كانوا يحاولون الاحتيال عليه، فيحرجوه أمام الناس ويجبرونه على نطق الراء، فيظهر عيب نطقه، وقد كان يوما قائما بين القوم يكلمهم، فمرَّ به قوم يتضاحكون عليه وقالوا له: كيف تقول جرَّ رمحَه، وركبَ فرَسَه، وأمرَ الأميرُ بحفر بئر على قارعة الطّريق؟

فأجابهم واصل بسرعة: سحبَ ذَابلَه، وامتطى جوادَه، وأوجبَ الخليفةُ نقْبَ قليب على الجادّة!