مرحبًا يا رفاق الشعر، أما بعد..

جِسمي مَعي غَيرَ أَن الروحَ عِندَكُمُ
فَالجِسمُ في عزبَةٍ وَالروحُ في وَطَنِ

الغربة تجربة روحية متكاملة الأركان، وهي التي تعيد تشكيل ما يبدو عليه المرء أكثر من غيرها من أحداث العمر، هذه التجربة التي كانت أقسى وقعًا على الشعراء والأدباء دون غيرهم من الناس، تلك التي سُمّي بها ضرب كامل من الأدب، كما جعل لها أبو الفرج الأصبهاني "أدب الغرباء".

يتعلق الإنسان بالأرض بملء كيانه، وما إن يفصل عنها، يضحي كجذع يتيم فاقد لجذره، يتخبط للتموضع والإستقرار في بقعة ما، ولكنه يغفل عن روحه التي خلّفها في الوطن، فيبقى يصارع لإبقاء جسده حيًا بينما تحيا روحه بمنأىً عنه.

...

الغربة لا تقتصر على المكان وحسب، يمكن أن تتسلل الغربة إليك بينما أنت مستقر في مأواك، بين أهلك ورفاقك، من تتشارك معهم النسب وربما سلك اللسان، ولكن ما يجمعكم لا يتجاوز ذلك، لا يشبهونك فكرًا وقلبًا، تكون معهم وأنت مغيّب عن حقيقتك، بعيد كل البعد عنهم، تحلق وحيدًا إلى جانب سربٍ متسق، لا تنتمي إلى أيٍّ منهم!

وَما غُربَة الإِنسانِ في بُعدِ دارِهِ
وَلَكِنَّها في قُرب مَن لا يُشاكلُ

*الحكم بن أبي الصلت

...

ربما يكون خير من عبّر عن هذه التجربة الشعورية الموحشة هو المتنبي، وكعادته -رفيقنا الذي لا يشبهه أحد- زاوج بين هذه المشاعر بثقلها على الروح، ورغبته في إبراز نفسه بفخر وتعالٍ مألوف عنه، لتتولد لنا أبيات لا مثيل لها، لنتشارك هذه اللذة الأدبية معًا:

وَهَكَذا كُنتُ في أَهلي وَفي وَطَني
إِنَّ النَفيسَ غَريبٌ حَيثُما كانا

تجاوز وصف نفسه بالغريب، ليصبغها بصبغة تجعل مرارتها أكثر استساغة، ويبرر هذه الغربة بكونه نفيسًا، والنفيس غريب.. هذا المتنبي يا سادة!

وَما أَنا مِنهُمُ بِالعَيشِ فيهِم
وَلَكِن مَعدِنُ الذَهَبِ الرَغامُ

وهو في هذه الصورة ذهب مستخلص من بين كثبان التراب وبواطنه!

وإن كان المتنبي حالة استثنائية بذاته في تناول هذا الشعور، حيث استطاع تحويله بشكل بديع إلى موضع اعتزاز، إلّا أنه لا يلغي حقيقته العسيرة على النفس، ففي الغربة وحدة، وفي الوحدة وحشة، وفي وجودها بين الحشود لوعة، وها هو أبو فراس الحمداني يشارك رفيقه في هذه التجربة الشعورية حيث يقول:

 غَرِيبٌ وَأهْلي حَيْثُ مَا كانَ ناظِري
وَحِـيدٌ وَحَوْلي مِن رِجالي عَصَائِبُ

ويختم بهذا البيت الذي يستدعي التوقف عنده من صدق تعبيره:

وَما أُنسُ دارٍ لَيسَ فيها مُؤانِسٌ
وَما قُربُ دارٍ لَيسَ فيها مُقارِبُ

...

وتظلّ رحلة البحث عن المكان، أو الشخص، أو شكل الحياة التي يمكن أن يطلق عليها "الوطن"، هناك حيث يقدر أن يكون المرء ذاته ولو لمرة، هناك حيث تشعر أن كل شيء ينتمي إليك وتنتمي إليه، البقعة الصحيحة لقضاء ما تبقى من العمر، ويبقى الطائر محلقًا حتى يجد عشّه المنشود.

يقول مظفر النواب:
«وقنعتُ بأن يكونَ نصِيبي في الدُّنيا كَنصِيب الطّيرِ، ولكن سُبحانكَ؛ كلُّ الطّيورِ لها أوطانٌ وتعود إليها، وأنا.. ما زِلتُ أطِير!» 

المساحة لكم الآن، اطمسوا غربتكم أو دغدغوها ببعض الشعر!