مرحبًا يا رفاق!

آمل أنكم تقيمون في دفءٍ حانٍ يخفف عنكم شدّة البرد ولا يسلبكم زمام ألبابكم فيصرفكم عن التركيز معي في جلستنا الشتوية الأولى يا أهل الشعر، لنرى ما ستنتجه أناملي المتجمدة وهي تتراقص بين أزرار لوحة المفاتيح في نهاية الأمر، أما الآن فأخبروني.. ماذا فعل بكم الشتاء؟

قيل في وصف الشتاء: أن فيه "يشتد البرد ويخشن الجو ويتساقط ورق الشجر وتنجر الحيوانات "، ماذا عن الإنسان؟ كيف يؤثر فيه هذا الجزء البارد من العام؟ في الحقيقة لن أستفيض في التفسير والنقل في هذا الجانب لأن له مختصيه، ولكن تأثير الفصول على الإنسان أمر مفروغ منه، وتظهر الأبحاث عدة تأثيرات على الصعيد النفسي والجسدي والمعنوي، ولكننا بصدد تناول هذه التجليّات في الشعر والشعراء، كيف ظهر الشتاء في قصائدهم، وكيف استحوذ على مشاعرهم ثم كلماتهم؟

وَمُستَنبِحٍ بَعدَ الهُدوءِ دَعوَتُهُ
وَقَد حانَ مِن نَجم الشِتاءِ خُفوقُ
يُعالِجُ عِرنيناً مِنَ الليلِ بارِداً
تَلُفُّ رياحٌ ثَوبَهُ وَبُروقُ
تَأَلَّقَ في عَينٍ مِنَ المُزنِ وَادِقٍ
لَهُ هَيدَبٌ داني السَحابِ دَفوقُ

يصف شاعرنا عمرو بن الأهتم قسوة الأنواء ذاتّ شتاء مشبهًا الغيوم الماطرة في عنفوانها بالأهداب الدافقة دمعًا، ويترافق وصفه مع ما رواه من استضافته لضيفٍ مفاجئ حلّ في تلك الليلة الماطرة بشدّة طالبًا المأوى، حيث استقبله وأكرمه بكلِّ رحابة، وفي الواقع هناك توافق جليّ بين ما جاء به الشاعر وما جاءت به بعض المصادر العلمية التي تؤكد أن الشتاء يجعلنا أكثر عطاءً وكرمًا!

ناهيك عن الإرتباط الوثيق في قصائد العرب بين الشتاء والكرم والذي ظهر في العديد من المواضع التي لا يسعنا ذكر أغلبها هنا.

...

لا بد لنا أن نعرج إلى حكمة المعرّي الشتوية التي يلقي فيها الضوء على التفاوت ما بين الفقير والأمير المنعّم في استقبالهما للشتاء:

لَقَد جاءَنا هَذا الشِتاءُ وَتَحتَهُ
فَقيرٌ مُعَرّى أَو أَميرٌ مُدَوَّجُ
وَقَد يُرزَقُ المَجدودُ أَقواتَ أُمَّةٍ
وَيُحرَمُ قوتاً واحِدٌ وَهوَ أَحوَجُ

وهو مشهد تناوله جمعٌ من الشعراء فيما يتعلق بالشتاء، وأخُصُّ تحديدًا استقبال الفقير الذي لا يملك ما يعينه على تدفئة نفسه ووقايتها من شراسة برد هذا الفصل، وفي وصف حلوله يقول الأحنف العكبري:

برد الشتاء معذب
يشقى به الرجال الفقير
وحل وريح قاتل
ونهاره يوم قصير
ليل الشتاء هو الممات
وفي صبيحته النشور

دعنا نرى كيف كان يستقبل الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد الشتاء:

إِنّي مِنَ القَومِ الَّذينَ إِذا
أَزِمَ الشِتاءُ وَدوخِلَت حُجَرُه
يَوماً وَدونِيَتِ البُيوتُ لَهُ
فَثَنى قُبَيلَ رَبيعِهِم قِرَرُه
رَفَعوا المَنيحَ وَكانَ رِزقَهُمُ
في المُنقِياتِ يُقيمُهُ يَسَرُه
شَرطاً قَويماً لَيسَ يَحبِسُهُ
لَمّا تَتابَعَ وِجهَةً عُسُرُه

تنقل لنا هذه الأبيات مشهد يصوّر فيها طرفة عاداتهم الشتوية في زمانه، فمن عادات العرب آنذاك "تقريب البيوت من بعضها البعض بغية الدفء، فيتقاسم الجميع الطعام بينهم وبهذا التقارب بين البيوت يسهل تفقد أبناء القبيلة جميعا."

وفي الختام، لم أغفل بالتأكيد عن القول الشهير للشاعر فواز اللعبون، واصفًا كيف يحل عليه الشتاء مترافقًا مع حرائق روحه التي لا تنطفئ، ولا يسعه إلا أن يوقد أشواقه ليتدفأ بها:

جاءَ الشتاءُ وروحي في حرائقِها
وما أزالُ أُداري سرَّ إحراقي
الناسُ تُوقدُ في بَرْدِ الدجى حطباً
وإن قسا البَرْدُ بي أوقدتُ أشواقي!

الشوق والشتاء، والشين في مطلعهما، برأيي هما رفيقا هذه المرحلة، ما بين نهاية عام ميلادي وبداية آخر، يصبح الكون أكثر هدوءًا، حيث تمتد الأصوات الشتوية إلى دواخلنا، والأهم من ذلك، يمسي الليل أطول، وكأنه عمرًا يتسع لأكوام المشاعر بداخلنا، ولكنه في أغلب الأحيان يستدعي مواطن الشوق والحنين، يضرمها ويمضي تاركًا إيّانا نمضي ليلتنا وسط جهود التدفئة، مشروب ساخن ومدفأة، كنزة ثقيلة وملاءة، وشوق مشتعل وربما.. قلم وقصيدة!

لا تغفلوا عن إخوتكم ممن تلتهمهم شدّة الشتاء في أصقاع الأرض، وتذكروا أن كل خيارات الدفء المتاحة بأيديكم هي "نِعَمٌ" تستحق الشكر دهرًا.

والآن الساحة لكم، أخبروني عن شتائكم، وعن الشِّعر.. الكثير منه!

*اعتمدت في الكثير مما جاء في هذه المساهمة على دراسة تابعة لجامعة نزوى حول "الشتاء في الشعر الجاهلي":