في إحدى ليالي الشتاء الباردة، اجلس بمفردي في غرفتي، نظرت إلى نافذتي التي كانت مغطاة ببخار الزجاج، وقفت بها أتأمل مدينتي الصغيرة كم هى هادئة، وشوارعها ضيقة، وأزقتها تفوح منها رائحة ذكريات الطفولة، كانت كل زواية بها تشهد على كثير من المواقف واللحظات التي عشتها، بعضها كان جميلا والبعض الأخر مؤلماً، غرقت في تلك الذكريات حتى شعرت بالاختناق والقليل من البؤس،وبين جدران تلك الأزقة، كانت الوحدة تتسرب إلى قلبي ببطء،

تنهدت بصوت عال ونظرت إلى السماء، وجدت السحب الداكنة تتراكب فوق بعضها، كما لو أن العالم بأكمله يغمره الصمت،

حتى وقعت عيني على القمر، كان يطفو بين السحب كما لو أنه جزيرة ضائعة في بحر من الظلام.

-أيها القمر، أليس من الصعب أن تشعر بالعزلة في مكان يعج بالناس، كم هو مؤلم أن تكون محاطًا بكل هذا الصخب ولا تجد من يلتقط خيوط أفكارك المتناثرة، كم مرة شعرت أنني أصرخ في داخلي بينما الجميع من حولي يتجاهلني، وكأنني شبح عابر لا يترك أي أثر!، ألقيت عليه هذا السؤال ووقفت لبرهة أتأمل ضوئه الباهت، الذي يكاد يختفي خلف السحب، وانتابني الفضول وتساءلت مرة أخرى:"هل تشعر بالوحدة أيها القمر؟ هل تشعر بأنك بعيد رغم أنك تضيء كل شيء من حولك؟

ولكن بدون جدوى لم أتلقى أي إجابة.

 ذهبت لأحضر كوب قهوتي، فهى الملاذ الذي نلجأ إليه حين نحتاج أن نختبئ من خيوط أفكارنا المتناثرة، رائحتها التي ليس لها مثيل ،وبخارها المتصاعد برفق الذي يداعب أنفي كا نسمة عابره، مذاقها الذي يلامس أروحنا قبل ألسنتنا، كل ذلك يعيد ترتيب الفوضى التي تعصف بداخلي، أصبحت القهوة شريكة لصمتي، أجد بها تناغمًا بين مذاقها العميق ووحدتي.

عدت إلى غرفتي، حيث السكون يكسو المكان، وحيث الأشياء حولي تحمل صدى أفكاري، وضعت كوب القهوة جانبًا، كأني امنحه لحظة ليهدأ فيها بخاره ويستقر، وأمسكت بحاسوبي، نافذتي الأخرى للعالم، ومرآتي التي تعكس شغفي وأفكاري، ضغطه على لوح المفاتيح، تليها أخرى، أحاول أن أكتب شيئًا، شيئًا اهرب به من قيود الوحدة، أسجل تلك الخواطر أنتابتني عن القمر، وتركت الأمر لأصابعي لأجدها تكتب:"وقفت أتأمل السماء في ظلمة الليل العميق، كان العالم من حولي ساكنًا، كل شيء يبدو هامسًا، شعرت بنسمة باردة تسللت لي من بين الأشجار، تحمل معها همسات بعيدة، كأن الليل نفسه يتحدث إليّ بلغة لا يفهمها أحد سواي، نظرتُ إلى القمر،تلك الجوهرة المضيئة في بحر من السواد، تأملته كثيرا، أغمضت عيني واستسلمت لصمت هذا الليل العميق، شعرت أن الليل يتشلني من نفسي،وكأنني جزء منه، أو جزء من تلك النجوم البعيدة، وفي عمق هذا السكون، بدا لي أنني سمعت صوتا خافتا، كأنه استجابة لمطلبي،صوت يقول: "أبلغته"

فتحت عيني مجددًا، ورمقت القمر بامتنان".

ضغطت زر “نشر”، وكأني حررت كلماتي من سجن أفكاري إلى فضاء أوسع، شعرت أن هذه المشاعر المثقلة، هى تلك الكلمات التي اختبأت في زوايا قلبي، أصبحت الآن عائمة بين الناس، ربما ينتبه لها أحدهم، ربما تمر كأنها همسة في عالم يعج بالضجيج، تركت حاسوبي جانبًا، ثم أخذت كوبي وتنهدت بعمق وكأنني أفررغ شيئًا من داخلي، شردت قليلا وأصبحت عيني مثبته على شيء مجهول، لكن ذهني يسبح في مكان بعيد، ربما في ذكريات كنت أظن أنني تجاوزتها، أو في أفكار عن مستقبلي الذي يبدو غامضًا مثل السماء الملبدة بالسحب التي تأملتها.

بينما كنت غارقة في شرودي، كأن العالم قد تجمد للحظات، اخترقت رنة الإشعار هدوئي، التفت سريعًا نحو الحاسوب، قلبي يخفق بخفة، مزيج من الفضول والتوجس، وكأن هذه الكلمات الآتية من شاشة مضيئة قد تحمل معها شيئًا غريبا، فتحت الرسالة ببطء، وكأني أحاول قراءة النوايا خلف كل حرف قبل أن تصل إلى نهايتها، وفي عقلي الكثير من الأسئلة 

"من يكون هذا المجهول؟ وماذا يريد؟، هل يحمل رسالة دفء في ليلة وحدتي؟ أم أنه مجرد عبور آخر لشخص عابر".

-حسنا لا أدري ما بال الليل اليوم يحدثني وكأنه يحاول أن يبلغني بشيء، ولكنني لا أفهمه ربما ذلك الصداع اللعين في رأسي لا يساعدني، أيتها الكاتبة المبدعة في رأيك هل يحاول الليل إرسال رسالة أم أن القمر الخجول المختبئ يحاول أن يلمح لي بشيء ؟

-ربما القمر الخجول المختبئ يحاول أن يلمح لك بشيء.

-اعذريني يا فتاة أنا لست خبير بلغة الأقمار فما رأيك بما أنكم من نفس الفصيله أن تترجمي ما يريد، لعلى وعسى أن يهدأ بالي ويتوقف عن التلميح!

-صديقتنا ترسل له رسالة بالاشتياق وكان القمر هى وسيلتها الوحيده في إيصالها فكان القمر الوسيط بينهم..

-اعذرينى أيتها الكاتبه لما تجعل بينها وبين أي أحد وسيط؟

-……..

-لِما الصمت؟

تعلم بأنها إذا ذهبت لا يجدي نفعًا

همم، يبدو أن هناك قصة وراء ذلك

ربما…

-إذن ما هى؟

…..

هل هناك شيء؟، تصمتين كثيرًا!

أرغب في الذهاب إلى النوم

حقًا، أعتذر، هل تحتاجي شيء الآن؟

لا

حسنًا، اراكِ لاحقًا أيتها الكاتبة.