لا زالت ثقافة الكتاب الإلكتروني في العالم العربي ضعيفة. ومن الحجج الشهيرة التي يرددها العازفون عن قراءة الكتب الرقمية أنهم "متعلقون عاطفيا" بملمس ورائحة الورق، أو أن النظر للشاشات لفترة طويلة يتعب بصرهم. لكن الواقع يكذبهم!
فنفس هؤلاء الأشخاص نجدهم ينظرون لشاشة الجوال والتابلت لساعات طويلة، يقرؤون المنشور على صفحات التواصل الاجتماعي.
فالحقيقة أن العربي قادر على قراءة عشرات البوستات يوميا، وقد يصل مجموع كلماتها لآلاف الكلمات، لكنه يصاب بالملل لو حاول قراءة نفس - أو حتى نصف! - هذا العدد ضمن صفحات كتاب إلكتروني!
لو كان العائق فعلا - كما يدعي البعض - هو الوسيط الذي تظهر عليه الكلمات (أي الفارق بين الورقة المطبوعة والشاشة) لما رأينا ظاهرة الإدمان على متابعة الفيسبوك، ولما رأينا شيوع التواصل النصي الإلكتروني.
فما السبب الحقيقي إذن؟
السبب هو المحتوى ذاته، لا الوسيط. فالمشكلة الحقيقية عند العرب ليست العزوف عن قراءة الكلمات، بل نفور من المحتوى الذكي الذي يحتاج جهدا ذهنيا لفهمه.
لو كان محتوى الكتب الإلكترونية خفيفيا، مكتوبا في شكل بوستات قصيرة، بلغة قريبة من اللهجة العامية، ومصحوبا بصور، لانتشرت الكتب الرقمية بين الجمهور العربي.
لكن ساعتها ستصبح هذه الكتب تافهة قليلة الفائدة.
=====
يتميز المحتوى الرقمي على الورقي بعدة مزايا، منها مثلا أنه قابل للتعديل والتصحيح بسهولة، فهو يواكب تقدم المعرفة. تصور مثلا أنك طبعت موسوعة ويكيبيديا في مليون ورقة (بغض النظر عن أنه إسراف شنيع وهدر للموارد!) فستجد أنه بعد مرور بضعة أيام فقط ستصبح نسختك هذه قديمة، لأنها تفتقد للإضافات والتعديلات والمعلومات الجديدة التي أضيفت للأصل الإلكتروني.
ومن المزايا أيضا أن الكثير من الكتب لم تعد متاحة أصلا في شكل ورقي، لأن طبعتها نفدت (Out of Print).
وميزة أخرى هامة: التداول الرقمي للكتب يحد من احتكار المعرفة. فعلينا أن نعترف أن قوانين حماية الملكية الفكرية تستخدم حاليا لمنع الدول الفقيرة من مواكبة التطور العلمي الغربي. ففي حين أنه من المفهوم مثلا أن ننسب المعرفة لمبدعيها، وأن نعترف لهم بفضل الاختراع والابتكار، لكن هل يعني هذا أنه يحق لهم حرمان الآخرين من الانتفاع بهذه المعرفة؟!
أليس احتكار العلم خطيئة؟
في رأيي، على قوانين الملكية الفكرية أن تركز على حماية المحتوى الترفيهي (الروايات، الأفلام، الكوميكس)، وأن تترك المحتوى العلمي والمعرفي (الأبحاث، الموسوعات، كتب الـ non-fiction) متاحا لمن يريد السعي للمعرفة، حتى لو كان فقيرا عاجزا عن شراء نسخة مطبوعة. هذا النوع من القرصنة مفيد، لأنه يقلل الفجوة المعرفية بين الأمم. والصين مثلا نجحت عمليا في "سرقة" تكنولوجيا الغرب، ثم تقليدها وإنتاجها بسعر أرخص وبكميات أكبر، حتى صارت منافسا قويا تخشاه أمريكا وأوروبا. وأنا أضع كلمة "سرقة" هنا بين علامتي تنصيص لأن شروط السرقة الحقيقية لا تنطبق عليها. نعم هي وسائل غير قانونية، لكن ليس كل ما يعتبره الغرب سرقة غير قانونية هو في الحقيقة سرقة.
عندما أسرق منك تفاحة مثلا، فمن المفهوم أنك فقدتها ولم تعد قادرا على الانتفاع بها. لكن عندما ألتقط صورة لوجهك، هل يعني هذا أني سرقت وجهك وأنه سيختفي من جسدك؟! نفس الشيء عند تصوير الكتب. الأصل لا زال عندك لتقرأه، وفي نفس الوقت أصبح عندي نسخة إضافية ظهرت للوجود، فننتفع نحن الاثنين، وبهذا يعم النفع.
ولا ننس أيضا أن كثيرا ممن يبحثون عن الكتب الرقمية المقرصنة يدفعهم لهذا عجزهم عن شراء الكتاب الإلكتروني والورقي، وبالتالي ليسوا أصلا من الزبائن المحتملين Potential Customers. فالناشر في هذه الحالة لم يخسر زبونا بالقرصنة، لأنه حتى لو لم تتوفر نسخة مقرصنة فسيظل طالب العلم الفقير عاجزا عن الشراء. فما الأفضل؟ شخص فقير قارئ أم شخص فقير جاهل؟
الإجابة واضحة.
فهل من العدل أن تصبح المعرفة متداولة ققط بين فئات اقتصادية معينة، وأن نحرم منها فئات أخرى؟
=====
أعظم اختراع ثقافي في العالم الحديث هو النسخ الإلكتروني. أمر copy الذي اعتدنا عليه وألفناه هو في الحقيقة حل سحري كان يتمناه طلبة العلم منذ قرون. قديما، لو كان عندك كتاب ورقي وتريد نقل محتواه لشخص آخر فإما أن تعطيه الكتاب (وبذلك تفقده أنت لفترة من الزمن، أو للأبد) أو تسمح له بنقله كلمة كلمة على ورق جديد، وهي عملية طويلة ومتعبة وتحد من انتشار المعرفة. اما الآن فيمكن أن تنسخ المحتوى في ثانية واحدة، فتظل نسختك الرقمية معك، وتظهر للوجود نسخة إضافية يأخذها صديقك!
=====
ميزة إضافية للكتب الرقمية: سهولة البخث في النص، وبالتالي سهولة الاقتباس والرجوع للمصادر، وبالتالي تيسير عمل الأبحاث. فكما يقال في مجتمع المبرمجين: "لا يمكن *جربنة* الأشجار الميتة"
"You can't grep dead trees" (The Jargon File)
كلمة "grep" هي أمر كمبيوتر (مشهور في نظام التشغيل الحر لينكس Linux)، يستخدم للبحث في ملف نصي.
(وهو في الأصل مكون من ثلاثة أوامر g/re/p وهي تخبر الكمبيوتر باختصار أن ينظر في النطاق العام للملف كله، وأن يبحث عن نمط معين أو سلسلة حروف متجاورة، ثم أن يعرض النتيجة على الشاشة)
والأشجار الميتة كناية عن الأوراق المطبوعة (والورق يصنع من الأشجار كما هو معروف). فلا يمكن البحث بسهولة في المطبوع، على عكس الكتاب الرقمي.
وكلنا اليوم نشعر بفوائد محركات البحث، وتيسير الوصول للمعلومة بعد أن أصبحت الكتب متاحة إلكترونيا. تصور مثلا أن عندك نسخة ورقية من كتاب فتح الباري بشرح البخاري، بمجلداته الكثيرة، وعندك أيضا نسخة رقمية متاحة مجانا على برنامج المكتبة الشاملة، وأنك تجري مناظرة سريعة أو نقاشا على الإنترنت وتريد أن تستشهد بنص حديث لكنك لا تذكر منه سوى جملة قصيرة تأتي في نهاية الحديث. برنامج الشاملة أو جوجل قد يعطيانك النص ورقم الصفحة في أقل من دقيقة، أما النسخة الورقية فلن تسعفك، لأن مجلد الفهارس يرتب الأحاديث هجائيا حسب أول كلمة فيها، ولو كنت لا تعرف هذه الكلمة الأولية فربما استغرقك البحث نصف ساعة أو أكثر!
التعليقات