في حياتنا جانب لا يدركه العقل، شيء بعيد عن الواقع، لا مكان فيه للمنطق، بعيد عن الماديات والحسابات، أشياء غير مألوفة نقف أمامها عاجزين، قد يبدوا لأحدنا ظلاماً، وقد يكون إشراقاً لآخر، كأن تجد نفسك في مكان مجهول وتلتقي حبيب فقدته من سنين، وتعود حيث ما كنت، لا تدري كيفية الذهاب ولا ماهية الرجوع، هكذا يكون الأمر.

تلقاه على غير موعد، وتقبض علي يديه لتؤكد سعادتك باللقاء، تعلم في نفسك أنه رحل عن عالمنا من سنين، ولكنك تتجاهل الأمر، كثيرون حاضرون معك، يعلمون ما تجاهلته في نفسك، وكذلك هم يفعلون، تحاول الإمساك بالوقت، تسأله عن حاله، وكيف هي أموره، وكأنه حوار مكتوب عليك أن تردده، في واقعك تشغلك مئات التساؤلات، وكم تتمنى أن تعرف إجابتها، لماذا لا تسأله!! إن الأمر ليس بيدك، لقد وجدت نفسك هنا دون أن تعرف السبب، ولا تدري من أين أتيت، تطرح تساؤلات تتصف بالغباء، وعلى منوال جهلك سبب اللقاء، يكون المثل في الفراق.

سأكتب تساؤلاتي في عقلي، وأحفظهم في قلبي، وربما دونتهم في ملاحظاتي، وسأُذكِرُ نفسي بهم دوماً، فربما ألقى أحدهم قادم من الجانب الآخر، بعدما رأى الطريق، وأدرك كل العقبات، وخاض كل مرحلة سمعنا بها وقرأنا عنها، والحديث على لسانه له شأن آخر.

لم تكن هذه شكوك في تلك الأمور، كما أنه ليس عدم يقين في عقيدة، أعوذب بالله من هذا وذاك، يشبه الأمر قصة إنسان عظيم، له فضل على البشرية، ويذكره التاريخ بالخير، وقد لامست القصة القلب، وتأثر بها العقل، هكذا كان الانطباع عن صوت العقل من صفحات القصة، والأمر يختلف إذا تلقيتها وسمعتها على لسان هذا العظيم، أن تسمع منه لا عنه حتماً ستدرك أبعاد جديدة، وأمور كانت بعيدة عن عقلك أن يدركها، وذلك مغزى تساؤلاتي.

في لقائي لا أملك شيئاً من أمري، أطرح تساؤلاتي وأتلقى الأجوبة، كممثل يُلقي ما فرضه عليه دوره، ولكني سأخرج من تلك الحلقة، وأتجاهل هذه التساؤلات الغبية، وأطرح ما يشغل بالي، سأحاول أن لا يمنعني أحد عن هذا اللقاء، وسأسعى للحصول على مكان خالٍ من الضوضاء، سأحتاج بعض الهدوء حتى أجيد التركيز، وفي مكان بعيد ستكون أسئلتي جاهزة.

سأضع يدي على كتفه وأقترب منه، وبصوت هادئ أقول له .. أخي العزيز ماذا حدث معك؟ حدثني عن تلك اللحظة التي رأت عينيك ملك الموت؟ بماذا شعرت حينها؟ وكيف تحملت اعصابك رؤيته؟ يقولون أنك تفقد قدرة التحكم على أطرافك فماذا عن هذه الشعور؟ وكيف كانت هيئة ملك الموت؟ وكيف خرجت روحك؟ هل له يدين التفت حول عنقك وأخرجها؟ أم أنه أدخل يديه في فمك والتقطها؟ أم أنها خرجت من صدرك؟ كيف خرجت في الأخير؟ وبعدما خرجت كيف كنت؟ هل كانت لك أعين تنظر بها؟ وإحساس تشعر به؟ وعقل يتدبر ما يحدث؟ هل نظرت إلى جسدك؟ وكيف كانت نظرتك لمن حولك؟ هل كان أحدهم يمسك بك؟ هل كنت مقيد في جسدك؟ هل كان بإمكانك أن ترى الناس من الداخل؟ هل كان بإمكانك أن ترى الصدق والكذب؟ هل تستطيع أن تفرق بين الحب والكره؟ بين الخير والشر؟ بين القبح والجمال؟

أنا لم انتهي بعد .. هل استحييت ممن غسلوك بعدما جردوك من ملابسك؟ أعلم أنك كنت تتمنى شيخاً يُغسلك، لكنه سبقك إلى حيث ذهبت، وأحضروا آخر يُحسن الغُسل، هل أعجبك الثوب الجديد؟ أعلم أنك مجبور عليه، وما كنت لترتديه وأنت بيننا، ولكنه لباس أهل القبور، هل أوجعك الرباط الذي به قيدوك؟ لقد أخبرتهم ألا يضيقوا عليك الرباط! هل رأيت الجموع الذي جاءت خلفك؟ لقد كنت أمسك أحد أطراف نعشك، هل عرفت من يحملوك؟ هل سمعت البكاء والنحيب؟ هل قلت آمين في الصلاة عليك؟ هل قلت آمين في الدعاء عليك؟ هل سمعت الخطبة على قبرك؟ هل تأذيت من حرارة هذا اليوم؟ لقد سال العرق منا جميعاً، هل سال منك شيء؟

اعلم أني شققت عليك لكني لم أنتهي بعد .. هل شعرت بي عندما نزلت معك القبر؟ هل شعرت بيدي تحت رأسك؟ هل أغضبك الرقود على التراب؟ هل أعجبك مسكنك الجديد؟ إنه خالٍ من كل شيء سوى التراب وبعض العظام، هل تعرفت على الراقدون جوارك؟ هل تمنيت أن أجلس جانبك؟ هل كان بإمكانك أن تمسك يدي أن أبقى معك؟ هل غضبت مني حينما خرجت؟ هل صرخت علينا حينما أغلقنا الباب عليك؟ هل فزعت من ظلمة القبر؟ هل ناديت علينا حينما تركناك وذهبنا؟ هل جاءك نور؟ هل شعرت بأي براح؟ هل استأنست بأحد؟

أنا لم أنتهي بعد .. فأنت زائر لن يتكرر، ولتلتمس لي الأعذار أو لا فسوف تُجيبني عن كل هذا فأنا لم أنتهي منك بعد .. هل رأيت منكر ونكير؟ كيف كانت هيئتهم؟ وماذا قالوا لك؟ وبماذا أجبت؟ هل أكرموك؟ أم أهانوك؟ هل رأيت موضعك؟ هل علمت إلى أي العالمين تنتمي؟ بالله عليك أخبرني..

لماذا لا تتكلم؟ لا ينبغي عليك أن تكتكم عني شيئاً !! تعلم ما في قلبي تجاهك !! فأنت العزيز على قلبي .. لماذا لا اسمع كلماتك؟ أرى شفتيك تتحرك!! لكن الصوت منقطع !! مالي أراك تتلاشى شيئاً فشيئاً !! حاولت الإمساك به، لكنه تفلت مني، وأصبحت أمسك الفراغ، لأجد نفسي عائد حيث أتيت.

لا شيء يأتي من هناك، ولا أحد يعود حيث ذهب، إنما هي مراحل وأحداث لابد أن نخوضها، ونشعر بكل لحظة فيها، لا أحد يقص عليك ما حدث معه، ولن تقص على أحد ما سيحدث معك، وإنما هو نتاج أفعال وأقوال لنا كانت في الدنيا وعليها تكون النتيجة في الآخرة، بدايةً من فقدانك قدرة التحكم على أطرافك وصولاً إلى إغلاق القبر عليك.

ولهذا أسألك يا الله ان تتجاوز عن أفعالنا وأقوالنا، اللهم إننا جهلاء بقدرك، وأغبياء لعلمك، وضعفاء لقوتك، وفقراء لغناك، لم تسع عقولنا مفهومك، ولم تستطع قوتنا إرضائك، ولم توفي كلماتنا حقك، سبحانك فاغفر لنا وارحمنا واجعلنا من أهل جنتك وصلى الله وسلم على سيدنا محمد والحمد لله رب العالمين.