المسرح التقليدي يعتمد على محاكاة الواقع، وله بناء درامي واضح، ينتقل من خلاله الكاتب من النقطة أ إلى النقطة ب، يعتمد على تطور أحداث المسرحية (بداية ووسط ونهاية)، يقدم شخصيات طبيعية تُشعر المشاهد بأنها تشبهه إلى حد التطابق، حتى يتعاطف معها، يدور بين هذه الشخصيات حوار منطقي من شأنه دفع الأحداث إلى الأمام، وغيرها من هناصر البناء الدرامي التي تعتمدها معظم الأعمال التي قرأها أو شاهدها معظمنا.
أما في هذه المساهمة، فسوف نتطرق للحديث عن نوع آخر من الدراما، نوع مخالف للدراما التقليدية، بل ومعادي لها أيضاً، سنتحدث عن مسرح العبث، هذا النوع المسرحي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، عاصر الخراب والدمار واليأس الذي خلفته الحرب، جاء كتابه ليعبروا عن إنعدام المعنى، وعن زيف الواقع، فناقضوا جميع عناصر المسرح التقليدي الذي يقوم على أساس من القيم المتعارف عليها، وعلى نظرة رشيدة للحياة، فالعبثيين يروا أن الوجود محايد حياداً تاماً، فالحقائق والأحداث لا معنى لها إلا في نظر الإنسان، أي أنه هو الذي يضفي عليها المعاني من عنده، لذلك فكل الوسائل التي يستخدمها الإنسان للإرتقاء بحياته الروحية لا معنى لها، لأن القيم التي يشيد عليها مثله العليا لا وجود لها من الأساس.
يعتمد مسرح العبث على المذهب الفلسفي المعروف بالوجودية، والذي من أهم كتابه جان بول سارتر، وسارتر يقول أنه لا وجود لقيم أخلاقية عالمية أو مطلقة، لذلك فالإنسان يسير على غير هدى في عالم خالٍ من وجود أهداف محددة، وبناءً على ذلك، فكل إنسان حر ومسؤول فقط أمام نفسه، وعلى كل إنسان أن يبحث عن القيم التي تتناسب معه، ويلتزم بها ويتصرف وفقاً لها.
في مسرح العبث لا يقوم الكاتب بتحديد زمان ومكان للأحداث التي تدور، وهذه الأحداث تغلب عليها صفة اللامعقولية، فهى لا تقدم قصة تتطور، بل تقدم صورة ثابتة تعرض الكثير من المتناقضات في وقتٍ واحد، تعرضها وكأنها حلم لا واقع، فترى أحداث تقع فجأة بدون مبرر أو تمهيد لحدوثها، فالمشاهد طيلة العرض لا ينتظر ما سيحدث، بل يفكر فيما يحدث أمامه الآن، ولماذا يحدث، وما علاقته بالذي حدث مسبقاً، والشخصيات أيضاً لا ملامح لها، وفي الكثير من مسرحيات العبث لا أسماء، ولا جنسية، ولا ديانية، ولا أي شئ يجعلها شخصيات حقيقية، حتى لا يتعاطف معها المشاهد، بل هى شخصيات هلامية، تقدم حقائق صادمة عن عبثية الوجود، وتفضح نقائص وعجز النفس البشرية، والحوار الذي يدور بين هذه الشخصيات عبارة عن إكلشيهات لا معنى لها، للتأكيد على تفاهة وسطحية الأحاديث التي يتبادلها البشر، وفي الكثير من المسرحيات يمكن الإستغناء عن عنصر الحوار في أحد الفصول.
أول من كتب لمسرح العبث كان صامويل بيكت "في إنتظار جودو"، ومن أشهر كتابه يوجين يونسكو، وجان جيني، وهارولد بنتر.
هل تتفق مع العبثيين في آرائهم، هل حقاً لا وجود للقيم الأخلاقية العالمية؟
التعليقات