ثلاثُ سنواتٍ مضت منذ استلامي للعمل في وزارة الصحة ، أذكر بأنه في الوقت الذي كنت أستعد فيه لخوض غمار هذه التجربة أخبرني أحد الأصدقاء وقتها ناصحاً : " العمَل الحُكومي سَيقضي ببُطئ على كل ما بَقي بداخلِك من جمَال فِطريّ ، وستتحوّلين مع مُرور الأيام إلى موظّفةٍ رتيبةٍ يبدأ يَومها في الثامِنة ويَنتهي في الثانية " .. وبالفعل كانت السنوات الثلاثة الماضية كافيةً لأعي جيداً المقصد من وراء هذا الكلام .

في الهيئة الصحية التي أعمل بها ترى الكثير من المكاتب المكتظة بالموظفين العاطلين عن العمل ، الكثير من السجلات المتهالكة التي يرجع تاريخها الى أعوام مضت لازالت مستخدمةً في تسجيل بيانات المرضى والكثير من الوقت الذي يهدر عبثاً في استعادة تلك البيانات أو تعديلها أو البحث عنها ، أما في حال ما توجّب عليك انهاء معاملةٍ ما هناك فإنك حتماً سوف تصطدم بالكثير من القواعد البلهاء والنظم البالية تلك التي قد عفى عليها الزمن وأصبحت دون جدوى .

الكثير من الاختبارات الأخلاقية ( السهلة حيناً والصعبة أحياناً ) تلك التي يفترض عليك اجتيازها يومياً من أجل أن تثبت لنفسك أنك قادرٌ على التغلّب على كل ما يدفعك اليه هذا المكان بكافةِ مكوناته من حيثُ أشكال العبثٍ والقابلية للتصالح مع الأخطاء والتقصير في آداء الواجب وعدم الإكتراث بقيمتك الحقيقية وما يفترض بك أن تكون عليه ، وفوق هذا كلّ أن تثبت لنفسك بأنك قادرٌ على أن تصبح تلك البذرة الصالحةً للإنبات في بيئة لا يصلحُ فيها الا القليل ! . وفي المقابل من هذا يهبك الله في كلّ حين القدرة على مدّ يد العون دون حيلةٍ منك فيصبح نصيبك من هذه القسمة هو " الرضا " الذي يظلل قلبك كشجرةٍ وارفة الظلال .

بعد هذه السنوات الثلاثة وبالرغم من قراري بالاكتفاء بهذه الفترة والسعي لخوضٍ مسارٍ دراسيّ وعمليّ آخر ، الا أنني لا أجدني نادمةً على اختيار السير في طريق العمل الحكومي ، بالعكس من ذلك فقد كانت فرصةً جيدة دفعتني لتعلّم كيف أطبق مبدأ " الاحسان " في ظلّ بيئة عمل محدودة الموارد وعقول متحجرة ترفض التغيير والكثير من الاختبارات الأخلاقيه التي لا يعبأ بها الا القليل .

ماذا عنك .. هل لك تجربةٌ مع العمل الحكومي ؟