حسناً، لنقل أنني كنت في سوريا آمناً بشكل نسبي، وقررت الهجرة لأنني لم أعد أرى فيها مستقبلاً على الإطلاق. أي انني هاجرت دون اضطرار فعلي ولكن توقع لمدى بعيد أنني ساضطر في مرحلة أو أخرى للسفر منها.
قبل السفر عليك الانتهاء من موضوع المخاوف كلها، لا تسافر قبل أن تكون عازماً مئة في المئة أنك تريد السفر، وأن كل الهراء الذي تخاف منه يجب عليك التعايش معه، وإلا لن تصلح للعيش في الخارج. على الرغم أني قبل سنتين كنت شخصاً مختلفاً وربما ألكم نفسي للموت لو شاهدتني حينها -أو حتى قبل بضعة أشهر- ولكن علي الإقرار ان بعض القرارات التي اتخذتها في تلك الفترة كانت صحيحة جداً.
مفارقة من حولك ستكون سهلة لو أمضيت الفترة الأخيرة بينهم وكأنك لن تراهم في حياتك مجدداً مطلقاً. تصرفت هكذا في فترتي الأخيرة في سوريا وأعتقد أنني لا أندم ولا للحظة عن شيء فعلته أو لم أفعله. وبهذا تنتهي من موضوع الندم بعد السفر. يبقى عليك الشوق للعائلة والأصدقاء والبيئة التي كنت فيها. وستتخطاه ببساطة بعد أن تعلم أن كل تلك الرفاهيات كانت مرتبطة بحياة سيئة، وعليك الانتقال من تلك المرحلة لأخرى لتحسين حياتك.
الخوف من المجهول هو ما يجب عليك التخلص منه قبل التفكير بالسفر حتى. طالما لا تمتلك الشجاعة أو القدرة على خوض مغامرة لا تعرف أين ستنتهي أو متى ستنتهي، السفر بغرض الهجرة لا يلائمك. قبل أن أخرج قررت أنني لن أعود لبلدي قبل هدف محدد، ولا يهم ما هو الطريق الذي سأسلكه، استودعت نفسي الله وخرجت دون أن أمتلك خطة مرسومة ومتقنة وانما فقط نقاط أساسية سأعمل عليها، وبدأت حياتي تتشكل على هذا. هناك دائماً أمور ستغير خططك وستضطرك للمشي باتجاهات لم تكن تتوقعها، ولكن في نهاية المطاف ما سيبقيك عاقلاً هو معرفة الهدف الذي تعمل له أو النقاط الرئيسية التي ستعرف حياتك.
العمل وكسب الرزق من أسهل الأمور، ولو أنها تبدو صعبة إلا أنها تلقائية في هذه الحياة، لكل امرئ نصيبه الذي سيناله بشكل أو بآخر من المال. ما يجب عليك الايمان به فقط أن الطريق الذي ستحصل فيه على هذا المال قد لا يكون دائماً كما تتوقع، قد تذطر للعمل كصبي شاي وأنت تتقن لغتين، وقد تضطر للعمل في مصنع حديد وأنت تتقن ثلاث، وقد تعمل كمشرف أو مسؤول وأنت لا تتقن شيئاً سوى مهارتك في الكلام وسيارتك المستأجرة. المهم أن تكون متفتحاً ولو بالفترة الأولى على طرائق كسب المال ولا تتأنف من أي عمل ريثما تستقر.
الفترة الأولى بعد السفر صعبة جداً، وبالأخص لو كانت البلد التي ستقصدها تتكلم لغة لا تعرفها أنت. اطلب المساعدة في الفترة الأولى ولا تخجل من أي شيء، ولو كان الأمر بسيطاً. حاول تعلم كل ما تستطيعه عن البلاد وطريقة سير الأمور فيها، تذكر دائماً أنك تتعلم في أشهر معدودة ما احتاجه البعض 18 سنة منذ ولادته وحتى بلغ أن يتعلمه في هذا البلد، لا تضغط على نفسك وتكتئب إن شعرت بالغباء، الأمر طبيعي. ابدأ بتعلم طريقة سير البلاد، ثم لغتها، ومن ثم كيف يتعامل الشعب بين بعضهم فيها.
في بداية قدومي لتركيا مررت بالكثير من الفترات دون عمل، ومررت بفترات أطول دون طعام فعلي في منزلي، ومرات دون مكان أنام فيه، ومرات دون أحد ليقدم لي المساعدة وربما أعيش فترة أصعب الآن، وسأعيش أصعب منها لاحقاً، ولكن كل هذه الأوقات لا تحتسب مقابل الفترات التي عشت فيها حياة جيدة، الحكمة هنا ألا تنظر للصعوبات التي تمر فيها على أنها كل ما شهدته من الغربة، بالتأكيد ستمر بأيام عصيبة ومقرفة ولكن قارنها بعدد الأيام الجيدة وستجد الفرق. اصبر على ما سيصيبك لتستطيع التعايش مع ما سيأتي.
لا تدع أحداً يغير نظرتك للعالم بكلامه وحديثه عن الناس الآخرين، شاهد بنفسك وتعامل بذاتك مع كل المواقف وشكل حكمك بنفسك. اهل بلدك كلهم سيئين في الغربة؟ تعامل معهم وجرب بنفسك. أهل البلد يكرهون الأجانب؟ تعامل معهم واكتشف بنفسك. واتبع القاعدة ذاتها في كل شيء تقريباً كي لا تقع في فخ "دوامة العويل" الذي يقع فيه أغلب المهاجرين.
لا تتعلق بأهلك ووطنك كثيراً. وذكر نفسك دائماً بالأشياء التي كنت تكرهها فيه، وليس الأشياء التي تحبها. لا ترتبط كثيراً بالمكان الذي سترحل عنه لأنك ربما لن تعود، والتعلق بأمر كهذا لن يفيدك بشيء وربما حتى يشل حركتك. رأيت الكثير من الناس يفقدون حياتهم هنا -سواء حرفياً أو مجازياً- وهم ينتظرون اللحظة التاريخية التي سيعلن فيها عن فتح الحدود للعودة لبيوتهم، لا أعتقد أن أحدا يرغب بحياة كتلك.
كتبت الكثير من الهراء. بالتوفيق بأي حال في رحلتك المستقبلية.
لو قررت القدوم لتركيا لا تتردد بالحديث معي كي أساعدك في تثبيت قدمك هنا للأشهر الأولى بقدر ما أستطيع.
التعليقات