في اليوم الخامس من عملي ضمن الإحصاء الوطني، كنت قد بدأت أعتاد الروتين: التحضير الصباحي، التأكد من جميع الأدوات اللازمة، والتجول بين الأزقة والبيوت. كان كل يوم يحمل تحدياته، لكنه في الوقت نفسه يفتح نافذة جديدة على حياة أناس لم أكن لأعرفهم لولا هذه المهمة. ومع نسيم ما بعد صلاة العصر، وجدت نفسي في حي هادئ بسكينة لا مثيل لها، تسوده البساطة، الأزقة ضيقة ولكنها تنبض بحياة غير مرئية، حياة تُحكى من خلال نوافذ مفتوحة قليلاً وأبواب خشبية نصف مواربة. كان الحي يبدو مألوفًا رغم أنني لم أزره من قبل؛ ربما لأن كل حي مغربي يحمل بين تفاصيله نفس الإيقاع العائلي البسيط والمألوف. كنت أتطلع إلى اكتشاف قصص جديدة تُثري يومي، دون أن أعلم أن تلك اللحظات ستقودني إلى واحدة من أكثر المواقف إنسانية ودفئًا.
أمام الباب الأول في الزقاق، طرقت بهدوء، وفتح لي رجل مسن، وجهه محفور بالتجاعيد التي تحكي عن عقود من التجارب، وعيناه تلمعان بود يبعث على الراحة. "تفضل، يا بني"، قالها بصوت خافت لكنه عميق. دعاني إلى الداخل، حيث وجدت دارًا صغيرة لكنها مرتبة بشكل يعبّر عن روح سكانها. كان الرجل وزوجته يعيشان وحدهما في هذا المكان الذي بدا أشبه بمتحف صغير يروي قصة حياتهما. صور بالأبيض والأسود معلقة على الجدران، وساعة قديمة تدق ببطء وكأنها تواكب إيقاع حياة هادئة.
أجريت عملي معهم بسهولة، لكن ما شدني أكثر هو حديث الرجل الذي كان شغوفًا بسؤالي عن الإحصاء. "ما فائدة كل هذه الأرقام؟" سألني بابتسامة نصف جادة. أجبته، "إنها تساعدنا على فهم احتياجات المجتمع وتخطيط مستقبله." بدا مقتنعًا إلى حد ما، لكنني شعرت أنه أكثر اهتمامًا بالمحادثة نفسها من الموضوع.
بعدما انتهيت، شكرني بلطف، ورافقني إلى الباب. شعرت أن هذا اللقاء لم يكن مجرد أداء واجب، بل كان لحظة اتصال إنساني نادرة في خضم العمل. ودعته بابتسامة تحمل امتنانًا للهدوء الذي منحني إياه قبل أن أتابع إلى الدار التالية.
خطوت نحو الباب المجاور، وأمام عتبة الدار شعرت بنسيم يحمل شيئًا مختلفًا. كان الزقاق هادئًا، لكن من داخل البيت كانت تتناهى أصوات خافتة. يبدو أن الداخل مزدحم. بينما كنت أتهيأ للطرق حين فتح شاب في منتصف العشرينيات الباب. بدا وكأنه يستعد للخروج، لكن رؤيته لي جعلته يتوقف. بابتسامة عفوية، بادرت بالتعريف عن نفسي:
"السلام عليكم، أنا باحث الإحصاء."
نظر إلى الحقيبة التي أحملها، قبعتي الرسمية، والطابليت بين يدي، وقال:
"انتظر لحظة، سأخبر رب الأسرة."
ابتسم الشاب وقال لي: "انتظر قليلاً، سأخبر رب الأسرة." اختفى للحظات، ثم عاد رجل ثلاثيني بلحية خفيفة وملامح تعكس تعبًا خفيفًا، وكأنه استيقظ للتو من قيلولة. دعاني للدخول معتذرًا بابتسامة خجولة.
دخلت إلى الداخل، لأجد دارًا بسيطة لكنها مكتظة بالأشخاص. الجو كان مشحونًا بحركة الأطفال وضحكات الكبار. اتضح لي بسرعة أن هذا البيت لم يكن يضم فقط أفراد الأسرة الأساسية، بل كان يكتظ بأقارب وضيوف تجمعوا في زيارة عائلية. رغم ذلك، كان الجو مليئًا بالحيوية، والدفء يغمر المكان بطريقة مدهشة.
بعد قليل من الحديث، بدأ رب الأسرة يشرح لي الوضع. "عائلتنا الأساسية صغيرة. نحن أربعة فقط: أنا، زوجتي، وطفلينا." جلست على كرسي بسيط بجانب طاولة خشبية قديمة، وبدأت بتعبئة الاستمارة. كنت أحاول أن أوازن بين القيام بمهمتي الرسمية وبين خلق جو مريح من الثقة. كانت هذه اللحظات تمثل بالنسبة لي تحديًا صغيرًا في كل بيت، إذ لا يقتصر دوري على تسجيل الأرقام فقط، بل يشمل الإنصات لفصول من حكايات الناس ومحاولة فهمهم بعمق.
وبينما كنت أدون البيانات، دار بيننا حوار بسيط، اكتشفت من خلاله أننا ننتمي إلى نفس المدينة. كانت هذه المعلومة كافية لكسر الحاجز الرسمي تمامًا، فأصبح حديثنا أكثر انفتاحًا وعفوية. شعرت فجأة أنني لست غريبًا تمامًا، بل ضيف مرحب به في هذا البيت.
مع كل سؤال أطرحه ومع كل إجابة يقدمها، كانت تظهر تفاصيل أكثر دفئًا عن حياته. أسئلة الإحصاء أصبحت أشبه بحديث عابر، وكأنني أتعرف إلى صديق قديم.
وصلنا إلى الحديث عن الطفل الأصغر في الأسرة، وهنا حدث ما لم يكن في الحسبان. علمت أنه ولد قبل مرجع الإحصاء بيومين فقط. كانت لحظة عابرة، لكنها أثارت فضولي. سألت:
"ما شاء الله، وماذا أطلقتم عليه من أسماء؟"
ابتسم الرجل، ونظر إلى زوجته التي كانت تجلس بعيدًا منشغلة بطفلها، وقال بابتسامة خجولة:
"لم نختر له اسمًا بعد. ما زلنا نبحث عن اسم مناسب."
كانت تلك إجابة غير متوقعة. شعرت للحظة وكأنني أصبحت جزءًا من حكايتهم الصغيرة، فرصة نادرة لأكون شاهدًا على شيء يتجاوز البيانات والإحصاءات. نظرت إليه وقلت مازحًا:
"لكننا بحاجة لإحصائه، ولا بد أن يكون له اسم. فما رأيك أن نختار له اسمًا الآن؟"
ضحك الرجل وضحكت زوجته أيضًا، وتبادلنا نظرات مليئة بالمودة والمرح. قال بفضول:
"ولمَ لا؟ ماذا تقترح؟"
تأملت الرجل للحظة. كان يبدو عليه الحنان والتواضع، وشعرت أن الاسم الذي سأقترحه يجب أن يعكس ذلك. فكرت سريعًا، ثم قلت:
"ما رأيك بـ 'يحيى'؟ إنه اسم جميل ومليء بالمعاني. كما أنه قريب من اسمك الشخصي."
ساد صمت قصير، لكن الابتسامة التي أضاءت وجهه بعدها كانت كافية لتخبرني أن الاقتراح أصاب قلبه. بحماس قال:
"يحيى … اسم جميل. ليكن اسمه يحيى! وعندما يكبر، سأخبره أن رجل الإحصاء هو من سماه."
أحيانًا، تأتينا الحياة بهدايا صغيرة من حيث لا نتوقع. في ذلك اليوم، غادرت ذلك البيت بعد أن أكملت عملي، لكن شيئًا ما في تلك اللحظة بقي معي. لم أستطع منع نفسي من الشعور بشيء عميق. لم يكن ذلك مجرد اختيار اسم، بل كان رمزًا لعلاقة إنسانية عابرة ولكنها مؤثرة. شعرت أنني لست مجرد باحث يجمع البيانات، بل جزء من قصة صغيرة ستبقى في ذاكرة هذه الأسرة وربما في ذاكرة هذا الطفل عندما يكبر.
وأثناء خروجي من الزقاق، فكرت: ربما يومًا ما، سأسير في هذا الحي مرة أخرى وأقابل "يحيى". ربما سيكون شابًا، وربما سيخبرني والده أنه يتذكرني، أو ربما ستظل هذه اللحظة خاصة بهم وحدهم. لكنها بالنسبة لي، ستظل ذكرى تشهد على أن الإحصاء لم يكن مجرد أرقام وجداول، بل كان فرصة لاكتشاف الإنسان في أبسط حالاته وأصدقها.
التعليقات