ركنتُ السيارة بعيدًا عن المبنى، لم يكن خيارًا إذ كانت المواقف ممتلئة كالعادة.
أطفأت المحرك، وتنفست الصعداء ثم خرجت لأمشي. كانت ليلةُ باردةُ وجافّة، كما كان الوقت الذي قضيته بعيدًا عنها قاسيًا.
ها أنا ذا في طريقي لإعادة لمّ شملٍ مضت عليه السنين. تسارعت خطواتي بعد أن غمرتني موجة ذكرياتٍ بلا حولٍ منّي ولا قوة. عرفتها منذ زمنٍ بعيد، ولكنها سلكت طريقها لقلبي حين كنتُ طالبًا في المرحلة الثانوية. سرعان ما امتلأ وقتي بها، وعقلي لم يخلُ منها في الحصص الدراسية. كان ذلك ماضٍ بعيد.
لم نستمر طويلًا. كان الفراق، وهو من طرفي، مُفاجئًا ومدفوعًا بأحكام الواقع. لم أبتعد بمحض الإرادة، وإنما أجبرني على ذلك الانتقال للمرحلة التالية من تعليمي. كان أمرًا لا مناص منه. أيامٌ تلت أيامًا، ثم تحولت بسرعةٍ إلى أسابيع وشهور منذ آخر تواصلٍ بيننا. في بادئ الأمر، كان الاشتياق الثقيلُ شديد السطوة. كنت أحلم بأجمل اللحظات وأتذكرها معظم وقتي. ثم لفترة حاولت يائسًا وبلا نجاحٍ أن أعيدها لحياتي، إلى أن قست الواجبات والمتطلبات الجامعية، فأخذني زخم الدراسة ومتاعبها بعيدًا. في لحظةٍ ما، أدركت أنني تناسيتها، إلى أن أوشكت على نسيانها تمامًا.
وصلتُ إلى بوابة المبنى. انفتحت أبوابه الكهربائية واسعًا، وغمرتني رائحة المكان المُعتادة التي لم تتغير منذ أن ارتبطَتْ لقاءاتنا بها.
عاود عقلي السير على طرقات الماضي: تخرجّت، فبدأتُ مرحلةً دراسيةً أُخرى بعد البكالوريوس. تطلّب هذا الانتقال تركيزًا بعيدًا عنها، مجددًا. بالرغم من هذا كلّه، فهي لم تغب كثيرًا عن بالي. كان صوتها الرنّان يُطرب أذنيّ، وكان الدفء الذي تشعرني به، بلا شبيه. في جميع حالاتها كانت ساحرةَ المنظر، ولا تملّها عيناي. عندما أتذكرها أو يذكرني بها موقف عشوائي، تمر بي حزمة المشاعر هذه دفعة واحدة، وتتركني في لوعة هي أقرب للوعة المُهاجر. كان آخر المواقف، وأعمقها تأثيرًا، قبل يومين.
كان أحد أيام الإجازة التي عُدت فيها للمنزل - دراستي دفعتني لمغادرة البيت والسكن في مدينة أخرى. فتحت باب غرفتي، فوجدتُ كتبي ملقاةً على السرير. تذكرت أنّي قبل أشهرٍ أنزلت الكتب من الرف لآخذ منها، ولمّ أرتبها. أول ما وقعت عيناي عليه كان أحد أول الكتب التي قرأتها بالعربية. لم يكن كتابًا استثنائيًا، ولكنه لامس فيّ حياة المراهق في مدينة الرياض. كان مفتاحي لعالمٍ آخر. لم تعد المغامرات حكرًا على توم سوير، وإنما لأحمد حصته من المغامرات أيضًا، وليست جولييت المُتيّمة الوحيدة، وإنما نورة تصدح بحبها بكلماتٍ بليغة، ولا يعرف بول أو سانتياغو الصحراء كما حفظها وجابها عسّاف.
في هذا الزمن، باتت اللغة الإنجليزية شرطًا للنجاح الأكاديمي والوظيفي. كانت أكثر الطرق فاعليةً بالنسبة لي هي التفكير باللغة الإنجليزية، والتحدث بها في جميع الأوقات - مما ابعدني عن قراءاتي بالعربية. وبعد أن كان الأمر تطوير مهارةٍ، أصبح ميزةً اجتماعيةً يطمع بها الجميع، خصيصًا المراهق الذي كنتُ عليه في ذلك الوقت. لذلك انغرست هذه اللغة الأخرى عميقًا، فأصبحت كالكائن المتطفل، وبات مُعظم المحتوى الذي أتلقاه سواءً للتعلّم، أو الترفيه، أجنبيًا بعيدًا عما نشأت عليه. لا عجب أن أجدني بعد قراءتي لأعمالٍ في اللغة الإنجليزية، فاقدٌ لشيء ما.
أستطيع فهم ما يرمي إليه الكاتب، وما تحاول الشخصية القيام به، ولكن الاتصال أصعب بكثير عمّا اعتدت عليه. لذا قمت بتجربة بسيطة: قراءة كتاب "مذكرات طبيب شاب" لميخائيل بولغاكوف أولاً باللغة الإنجليزية، ثم باللغة العربية. بالرغم من صعوبة التواصل مع شخصية طبيبٍ روسيٍ يعمل في ريفٍ ناءٍ، إلا أنّي وجدتُ النسخة العربية أكثر حدة عاطفية؛ كنتُ أشعر بتجمّد أصابعي في برد القوقاز القارس، وأكادُ لا أرى بسبب الظلام الذي نتج عن تراكم الثلوج، ثم شعرتُ بدفءٍ حقيقي عندما رأيتُ ردة فعل المرضى بعد عمليةٍ ناجحةٍ لم تكن في الحسبان
أدركت ما كنتُ دائمًا أفكر به ولم أضعه قبل في كلمات منطوقة أو مكتوبة. أنّي لا أستطيع أن أعيش دون أن أقرأ بالعربية. أجدني بعد كل فترة انقطاع أو انشغال، أشتاق. لا للقراءة، بل للقراءة بالعربية. المأزق يكمن في أن سربًا ضخمًا تشكّل من الكتّاب العرب الحديثين الذين انشغلوا بما يُكسب الشهرة أو المال، سواء كان في العمل الروائي أو السردي. وأن بعض الكُتب المُترجمة لا تعكس نوايا كاتبها، وقد تسلبُ منه روحه. لعلّه هاجسٌ سيدوم، ولكن كل ما في وسعي هو أن أُكمل في استكشاف الأدب العربي، وأبقى مُتصلًا به.
وصلتُ أخيرًا.
أرفف الكتب العربية في متجر الكتب المحليّ تحيط بيّ، فأشعر مجددًا بتلك الحزمة من المشاعر، ولكن هذه المرة تغيب عنّي لوعة المهاجر، لأني حيثُ أنتمي.
التعليقات