يحكي لي أحد أصدقائي عن حَمَاه الذي أنهكه المرض، يخبرني أنه يصطحبه لإجراء الفحوصات والتحاليل والكشوفات اللازمة. سألته وأين أولاده؟ قال لي أنهم منشغلون بأعمالهم في محافظة أخرى! تعجبّت من الحال فأخذ يحكي لي عن أحوالهم وطبيعة أعمالهم كنوع من تبرير عدم تواجدهم بجانب أبيهم الذي يبدو أنه في آخر عهده بالدنيا.
من ضمن التبريرات التي ذكرها صديقي أن حالة والدهم متدهورة منذ عامين، وأنهم في البداية عكفوا على رعايته والذهاب به للأطباء وما إلى ذلك لكن دون جدوى، لم يجدوا أية مؤشرات على أي تحسّن محتمل. فتعوّدوا على ذلك: أي كثرة الفحوصات والزيارات الطبية والمَرَض بوجه عام.
مضيفاً أن أعمالهم تتطلّب حضوراً يومياً ومن الصعب أن يطلبوا إجازات متكررة من المدراء. ودار بيننا نقاش بسيط حول مسؤوليتهم تجاه والدهم، وما إذا كنّا سنفعل مثلهم لو كنّا مكانهم وأن نلتمس لهم الأعذار... إلخ!
لم أجد نفسي مهتماً بأي من تلك الأسئلة، بل وجدتني أفكّر في اتجاه آخر تماماً هو شعور الأب في تلك الحالة. عندما يجد زوج ابنته هو من يهتمّ به ويتابع حالته يومياً في حين أولاده الاثنين خارج المحافظة كلٌ في عمله ومع أسرته يكتفيان فقط بمكالمة هاتفية بين الحين والآخر!
خطر لي كيف يشعر، عندما يختلي بنفسه في وقت فراغه (ولديه الكثير منه بطبيعة الحال) ويفكّر في فلذات أكباده الذين ربّاهم وأشرف على تعليمهم حتى أصبحوا ما هم عليه، وتواجد بجانبهم حين كانوا يحتاجونه، وتوقّع منهم المِثل فهو الآن يحتاجهم بجانبه لكنهم غير متواجدون أياً كانت الأسباب.
ربما لم يُعلن عن هذا صراحةً ولم ولن يتفوّه به ولو سألته لأخبرك أنه يلتمس لهم الأعذار، لكنه بالتأكيد يشعر في داخله بالمرارة والحسرة. الموت بات قريباً منه وقد يأتيه في أي لحظة، وأشدّ ما يخيفه هو أن يموت وحيداً دون تواجد أولاده بجانبه. أولاده الذين من أجلهم أفنى عمره عليهم لكي يتكأ عليهم في وقتٍ كهذا وإذا بهم ليسوا هنا، فما قيمة الأولاد إذاً؟ هذه هي النقطة التي جالت بخاطري في الأمر كله.
كيف أن آباؤنا وأمهاتنا في كِبرهم لا يريدون منّا سوى القليل من الاهتمام، وأن يشعرهم أبناؤهم أنهم ما زالوا مرغوبٌ في وجودهم، ما زال لهم دورٌ في حياة أبناءهم في ظل هذا العصر المليء بالجحود والإنكار.
أحبوّا آباءكم وأمهاتكم، اجسلوا معهم، حادثوهم، لا تتركوهم فريسة الشعور بأنهم أصبحوا مهمَلين، بأنهم يعيشون أكثر من اللازم وأن وجودهم بات عبئاً عليكم، لا تجعلوهم يتمنّون الموت لأنفسهم!
وهنا أتذكّر قصيدة حزينة إلا أنها رائعة للأبنودي اسمها (يامنة) يحكي فيها شيئاً مشابهاً تماماً لما أتحدث عنه من خوف كِبار السن من الوحدة. تأمّل مثلاً جدته يامنة وهي تحكي:
طب ده انا ليّا ستّ سنين
مزروعة في ظهر الباب
لم طلّوا علينا أحبة ولا أغراب.
فاكر يامنة وفاكر الوش؟
إوعى تصدقها الدنيا..
غش ف غش.!!
إذا جاك الموت يا وليدي
موت على طول.
ثم تحكي لنا الجدة يامنة عن مخاوفها في هذا المقطع الذي لخّص لنا شعور الخوف من الموت وحيداً:
اللي اتخطفوا فضلوا أحباب
صاحيين في القلب
كإن ماحدش غاب.
واللي ماتوا حتة حتة
ونشفوا وهم حيين..
حتى سلامو عليكم مش بتعدي
من بره الأعتاب
أول مايجيك الموت .. افتح.
أو ماينادي عليك .. إجلح.
إنت الكسبان.
إوعى تحسبها حساب.!!
بلا واد .. بلا بت..
ده زمن يوم مايصدق .. كداب.!!
سيبها لهم بالحال والمال وانفد
إوعى تبص وراك.
الورث تراب
وحيطان الأيام طين
"وعيالك بيك مش بيك عايشين..!!"
التعليقات