مساءُ الخيرِ يا عزيزي..
لا أدري أيّ طريقٍ آثرتهُ بالمسير، كذلك لا أدري كيف سيكونُ عامُك الأولُ في عالمك الجديد..
لكنّي أزفّ لكَ البشرى بأنك لن تجدَ الكثير الذي توقعت، وأنّ اللحظات الأولى في الجامعة لن تُرضيَ شغفك، والخطوات التي ستخطوها بحماسات العالم ستهوي بكَ شيئا فشيئًا لأرضٍ لم ترغبْها، وأن سقفَ توقعاتك سينهالُ على رأسك شيئًا فشيئًا..
ذاتَ يومٍ ستشتعلُ الأرض من تحت قدميكَ حماسًا ورغبة، وستنظرُ للدنيا بوهج البدايات، وستشعرُ حتى تبلغ قرارةَ شعورك، وستذرف الكثيرَ الوافرَ في غير موضعه، وستصابُ بالخيبة، وسيعتريك الإحباط، والكثيرُ من الشكوى والتأفف لا يحرّكُ دواليبَ الدنيا، والبكاء أمام العبء لا يزحزحه أنملة، والكثيرون من حولك سيتساقطون شيئا فشيئًا، علّك تجد كتفًا لا يخون.. لكني لا أثق في ذلك، الأكتافُ تخذلُ في أوقات عصيبة، ويتمايل الرأس ويهوي، ويسقط العالم بين ذراعيك.. وتبكي.
وكثرة بكائك ستعلمُك الكثير، علها لن تعيدَ شيئا مضى.. لكنها تحفظ الكثير مما هو آت..
أزفّ لك البشرى، وأسميها بشرى لأن الواقع أحق بالإخبار من زيف الأماني، وأسميها بشرى لأنك ستدرك السعادة في نهايات التخبط، وستجد نفسك بعد عدة محاولات، وفي إحدى المتاهات التي ستدخلها تائها ستخرج بالكثير.
أسميها بشرى لأنك ستترك أخيرا دروس الأوراق إلى دروس الدنيا، وما تعلمه الأيام، وما تكتبه في كفيك وبين ضلوعك، لعلك تعرفُ أخبارا شتى لكنني لستُ واثقة من علمك بها على نحو يقيني.. ستثبت الحياة ذلك على مهل، إنها معلم ماهر وكتابٌ متأنٍّ.
أتدري، لو كنتُ مكانَك لنصحتُني بألا أفرط في أي شيء.. لا جهدي ولا آمالي، ولا طموحاتي التي تبلغ جبين السماء، ولا مشاعري التي تُسْكَبُ على العابرين، ولا العابرين.. إفراط العابرين مرهق، كلهم يدبون برأسي ذهاباً وإيايا على نحو لا يمكنني من السير وحيدة أبدا!.
وستدرك يا عزيزي جمالات الوحدة يوما ما، ربما ليس دائما.. وليس لوقت طويل.. ولكن لا غنى عنها، بعض يوم أو حتى بعض ساعة.. في آخر الليل عندما يهدأ الجميع حان الوقت لهذا الرأس أن يهدأ أيضًا ويحلم على مهل!.
هذه الكثرة الكاثرة التي تحاوطك من كل جهة ليس لها وجود حقيقي، أنت تتوهم النجاح في مكانه الخاطئ، المساحة بالخارج أضيق من أن تسعك، ومساحة داخلك أوسع من أن تتركها وتفر..
والهروب الذي يعتريك برغبة منك أو إنكار.. سيهاجمُك طويلا، وستعاقبك فطرتك بالكثير، وستصرخ ذات ليلة حيث لا يسمعك مجاورك بعدة أشبار، ستتعلم التنهد والسكوت، وتأمل الأشياء التي تحدث دائما ولا تأخذ قسطها من التفكر.
العام الأول سيمضي سريعا، رغم أن الليالي فيه لا تمر، والأعوام من بعده ستحذو حذوه، وستركض الأيام على كرة عينك كما يفعل فأر الدواليب، وستركبُ المضمار الذي لا ينجو فيه أحد..
ستتوق يوما إلى استراحة ظليلة على رصيف هادئ، تنظر منها على الركب الذي يركض تباعا وراء كل شيء، وتتبعه أنت تخوفا من شعور الغربة، ألن تفكر يوما أن غربتك نشأت بعدما تركت استراحات الطريق!..
وسأعيد عليك "ألن تفكر يوما" وأتركك عندها، حيث لا يسعني أن أعيد ترتيب التروس برأسك، لكنك ستفعل يوما ما، أو ربما ستكتشف يوما أن ذلك مما كان ينبغي..
لا بأس، الكذبات بالخارج كثيرة، وربما لم تدرك ذلك بعد، وربما لن تدركه أيضا.. الكثير لا يدركون، لكني أهيب بك أن تسقط في حفرهم التي تزداد عمقا كلما زاد الأتباع، وأهيب بك أن تتقلّد مكانًا خصص لك في قطار لم ترغب بوجهته، ربما الجمال من وراء النافذة ينسي طول الرحلة وحيثيات القطار، لكنك حينما تهبط ستجد عمرك منفقا على الطريق ولن تجد نفسك في المحطة.
مساء الخير يا عزيزي، ربّ خيرٍ لم تنله كان شرا لو أتاك!، لا أعرف إلى أي مدى تبلغ تعلقاتك لكني أعظك ألا تسترق النظر من ثقوب الأبواب على الأشياء التي اختارت بيوتا غيرنا!، لن يجدي ذلك نفعا، وبيتك يزداد خرابا وعينك لا تلحظ سوى الغائب..
الغائب لا يعود، وإن عاد فلا أظنه الغائب الذي انتظرت، الأيام تعيد تشكيلنا من جديد، لا أضمن لك أبدا أني سأكون كالبارحة، ولا أنك ستكون غدا كما اليوم، الحياة مؤقتة بشكل مدهش!، كل شيء يخص الآن يعبر عن الآن فحسب.. لا أضمن لك مطلقا أن شيئا مما تكنه الآن سيصمد للحظة القادمة..
الجدران التي تسورتها واخترتها لتحميك من العالم هي أول ما سيسقط عليك، والجهة التي تعصي الله فيها هي أول من سيبادر بخذلك، والبشر باهتون لا يملك أحدهم وميضا فتاكا لكي تنظر إليه باهت العينين فاغرا فاك!.
والقلوب تتغير، والروايات كاذبة، والمحفور في ذهنك عن العالم بحاجة إلى إعادة النظر، لا أملك ممحاةً تغير سابق الأفكار.. لكنني أؤمن أن الحديد يفل بالحديد، ولا يقتل الفكرة سوى عقوق أحد أبنائها .
ستكبرُ يا عزيزي وستفلتُ يديك عن كثير وترخيها عن كثير آخر.. تعود لذة الفراق ولا تطل استراق النظر، ما لم يكن لك من البداية لن يكون لك بعد عمر طويل، ولو أفنيت عمرك في مراقبته..
الآخرون أكذوبة ستكذبها كثيرا، وستمني نفسك بها مرات ومرات، ربما ستدرك متأخرا أن المساحة المعطاة للآخرين من فكرك وحياتك كانت أكثر من اللازم، ربما أكثر منك!.
لا أظن أنك خلقت واحدا لتكون أناسا كُثُر، ولا أظن أن فيزيائية مغادرة الأشياء جُعلت لتتواجدَ سيكولوجيا هناك من حيث غادرت!.. غادر.. تعوّد أن تغادر، غادر الأشياء بنفسٍ مطمئنة، لا تفني عمرك بالتشبث بما يتفلت كلما وجد فرصة..
التجارب ستصنع الكثير.. لا أبالغ إن أخبرتك أنك مجموع تجاربك في النهاية، خض تجاربك بشجاعة وتقبل الإخفاقات، ودوّن كل شيء على مهل.. شاهد نفسك في منتصف المعارك.. واحترم هزائمك كما تقدر لحظات نصرك..
الدنيا ليست جميلة إلى هذا الحد، وأكذبك خبرا إن أوهمتك بذلك.. فيها كثيرّ سيء.. كثير يبلغ حد الطغيان، والألم فيها أكبر من الراحة، ولم تُجعلْ لنا مستقرا.. لا تبالغ في محبتها، ولا تتركها هملا.. كن مع الأمور على هون، وامشِ في طريقك ولا تهرول.. دع كل شيء يأخذ وقته وتمامه وراقب ساعات نضجك على مهل.. لا داعي لاقتطافك مبكراً؛ كل شيء يأتي في موعده.
كل شيء يأتي في موعده فلا تستعجل حدوث شيء، ولا تسترق النظر في طرق العابرين لن ينفعك ذلك شيئا، لعلك إن أسهبت النظر في طريقك وجدت ما ينقصك أو أحسنت توجيه ما لديك بالفعل!.
كل شيء يأتي في موعده الصحيح، فكن أنت أيضا في موعدك الصحيح ومكانك الذي ينبغي، لا أعرف فائدة للتأفف على سير القطار في محطات الرحلة!، لابد أن تأخذ كل محطة وقتها.. لكي تصل في النهاية في مكانك الصحيح.
تنفس على مهل، وتأمل لطف الخلائق والجمال المبثوث في كل شيء، وتكلم برويّة، وانظر إلى السماء، واصطحب فسائلك حيثما ذهبت، واغرس في كل أرض نبتة، ولا تكلف نفسك دون ما تَسع، وكُن بخير ما استطعت.
التعليقات