12:02      29/01/2022    السبت..

"أيا أرواح وَسَارة وسارة .."

هذا ما كان ينادي به السائق بمحطة سيارات الاجرة ، بصوت عالٍ يدعو المارين للذهاب الى مدينة وسارة ..

واقف هنا اشبه لافتة الطريق تماما ، أحمل بوجهي طول الطرقات و بملامحي تبدو المسافات للعابرين من حولي واضحة جدا ..

مثقل بالحقائب ،مثقل بالرحيل ..

أذكر انها كانت ليلة صعبة جدا ،كنت بالكاد قادرا على توضيب اغراضي أحمل ملابسي بصعوبة وكاني كنت أحمل أثقال العالم كلها و اضعها بالحقيبة ..

في وقت متأخر أقف لوحدي و الطاولة ،لا اجد كيف أهرب من زحمة المشاعر تلك ،إلا في رسمة لم انهها ،استجمع قوايا واحمل بصعوبة اقلام الرصاص ،لم أكن قادرا على التركيز بالصورة أو تصحيح الاخطاء المرتكبة ، كنت عاجزا تماما عن الفرار من خلال نافذة محاولات عقيمة لإنهاء رسمة بدأتها بالأمس ..

رميت بالقلم فوق الطاولة ،حاملا الراية البيضاء معلنا عن استسلامي ،بعد عناد طويل لم اجني منه شيئا ..

أتحدث مع سيف، أراسله ،متسائلا عن مكانه و زمن وصوله ..

كنت غير قادرٍ على إغماض عيني ،متعب ،مستسلم امام جنون الليل و لسعات الوقت و ثقل الحقيبة التي كانت تلمع بالزاوية كلما صوبت نظراتي نحوها ..

لم استطع أن اجد محطة فوق الوسادة أنتظر عندها مرور قطار الأحلام ،الذي يُقِلُني إلى مكان آخر بعيد ..

 كل المحطات كانت مُأجَجة بحقائب و كراسي الرحيل 

لا محطات اخرى هته الليلة ، لا فرصة للإبتعاد عن كل هذا الضجيج الداخلي الغير مسموع ..

 صوت الحقائب ، و الحنين و الليل و ملامح جدتي و مشاهد الرحيل ،و الانتظار القاتل .

و الله صعب هو ذلك الإحساس ، إحساس عميق ،بين مد و جزر ياخذني و يبتعد بي ثم يسحبني الى الاعماق ويغرقني في بحار كآبة لا شطآن لها ،لا قوارب نجاة ،أستمر بالغرق للأسفل و حسب .

شعور غريب يمتزج فيه كل شيء ،التعب و الارهاق النفسي ،الرحيل ،الانتظار ،و طول الطرقات و سخافة كل ما يحدث ،كل ما تنسجه لنا الأيام ..

أركب السيارة مرغما ، اضع حقيبتي بالخلف ..

أنتظر لبعض الوقت ريثما يصل بعض المسافرين ، أولئك الذين اختارهم القدر لمرافقتي و سلك الطريق نفسه ..

أخيرا أقلعت السيارة بنا معلنة عن بداية الرحلة ...

أسأل السائق عن الطريق المختصر الذي يوصلني الى وجهتي وذلك لحكم تجربته مع الطرقات..

طرقات اتعبتني و لم أعد أعبرها كما في السابق ، بل تعبرني و تنبش عن جراح دفينة بمقابري لتحييها...

يرن هاتفي ..

رسالة صباحية ،يا ترى من هذا الذي تذكرني ..

اه هذه اختي الصغيرة ،رغم انه لم يمض على توديعي لها نصف ساعة ،الا انها إشتاقت إلي ..

كانت لا تمل من سرقة هاتف والدي لتراسلني و تكتب لي ..

قالت في رسالتها تلك تحدثني عن إلهام ابنة عمي الصغيرة ، بعد أن جاءت لتبحث عني و لم تجدني ..

وصفت لي في كلمات بسيطة مشهد خيبتها برحيلي ،دون ان اودعها ..

ربما كان الأمر يبدو بسيطا ،وربما قد يكون بالنسبة للاخرين مجرد سذاجة اطفال  

لم يكن كذلك بالنسبة لي ، الاطفال صادقون ، لم يعرف النفاق منفذا إلى قلوبهم الصغيرة ..

هذا ما أؤمن به ، و متأكد منه ..

 تأثرت بكل ما ورد بتلك الرسالة ، واتصلت فورا بعمي ، وقلت له ان يمرر الهاتف لإبنته ، اعتذرت منها متحججا بخوفي من عدم اللحاق بسيارة الاجرة و غيرها من الأمور التي تحدث مع كل مسافر ..

كنت احدثها و اكاد ان افقد صوتي ، كانت طفلة صغيرة ،ولكنها أثرت في كثيرا ،بالكاد تمالكت نفسي وقطعت المكالمة بوداع سريع فارا من تجمع السحاب بعيني ..

كان لابد ان اعتذر ، لايهم السن او الفارق ، ما يهم ان نعتذر من اولئك الذين يحبوننا بصدق و يهتمون لأبسط تفاصيلنا ،ينتظروننا يسالون عنا دون حاجة ،فقط للإطمئنان عنا ..

اولئك هم الأولى باعتذارنا ، و بحبنا واهتمامنا أيضا ..

لا أحس بالطريق و لا بطوله،استأنس بحديث السائق الذي يتحدث بشتى المواضيع 

لم أكن أصغي جيدا الى ما كان يقوله،مجرد كلمات التقطها من حين لآخر كنت غائبا تماما ،افكر خارج السيارة ..

كان صوته يحل محل المذياع ، يشعرني بالدفء و الأمان دون أن أعيي ذلك ، يبدد المسافات أمامي ،و يخفف من حدة الرحيل بداخلي ..

يتضاءل الطريق اكثر ،و يبدو اني سأصل المحطة الاولى عن قريب ..

أتساءل عن سيف الدين ،ولا أدري ان كان قد وصل الى مدينته ، إن عاد الى عائلته و منزله ...!

لابد أنه ،وصل ...

يا لسخافة الأقدار ،في اليوم الذي أرحل فيه و أبتعد يعود هو إلى الديار ويقترب ..

هي هكذا الاقدار ،مثل رياح الخريف ،تجمعنا فجأة ،تتلاعب و تلهو بنا فوق أرصفة الأيام كأوراق الشجر ،ثم ترمينا بالنهاية عند محطات و طرقات لم نخترها يوما ..

طُرقات من البُعد ... من الغياب ..

#موساوي عبد الغني ♤