قراءة في التعليم من منظور "الوظيفة المطلوب إنجازها"
عندما نُفكر في التعليم، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو: "التعلّم". لكن ماذا لو لم يكن التعلّم هو الهدف الحقيقي أو الوحيد؟
ماذا لو كان الطلاب – بوعي أو بدون وعي – "يستأجرون التعليم ليؤدي لهم وظائف أخرى" غير نقل المعرفة؟
هذا ما يقترحه إطار فكري يُعرف باسم "الوظائف المطلوب إنجازها" (Jobs to be Done)، وهو منهج تحليلي حديث يُستخدم في فهم دوافع المستهلكين الحقيقية، ويمكن تطبيقه بذكاء على النظم التعليمية.
ما هو إطار "الوظائف المطلوب إنجازها"؟
طُوّر هذا الإطار من قبل المفكر الأمريكي (كلايتون كريستنسن)، ويُركّز على سؤال بسيط لكنه ثوري:
"ما الوظيفة التي يُعيّن الناس المنتج أو الخدمة لأدائها في حياتهم؟"
فالمستهلك لا يشتري منتجًا من أجل خصائصه فقط، بل ليستعين به لإنجاز مهمة محددة في سياق حياته.
وعندما نُسقط هذا المنهج على التعليم، يصبح السؤال:
ما الوظيفة التي "يستأجر" الطالب النظام التعليمي لأدائها؟
التعليم من منظور الطالب: أكثر من مجرد تعلّم
بالنظر إلى سلوك الطلاب، وخياراتهم، وتوقعاتهم، نجد أن التعليم يؤدي لهم وظائف تتجاوز كثيرًا مجرد اكتساب المعرفة.
وهذه بعض الوظائف غير المرئية التي يسعى الكثير من الطلاب لتحقيقها عبر التعليم:
1. الحصول على شهادة رسمية
أغلب الطلاب لا يقيسون نجاح التعليم بمدى فهمهم للعلوم، بل "بالحصول على وثيقة تُثبت أنهم "مؤهلون" لسوق العمل". الشهادة أصبحت في نظر كثيرين "جواز سفر اجتماعي واقتصادي".
2. بناء شبكة علاقات
المدرسة أو الجامعة هي مكان لتكوين صداقات، التعرف على شركاء مستقبليين في العمل أو الحياة، والاندماج في مجتمع له تأثير طويل المدى على فرص الشخص.
3. كسب الوقت للنضوج
السنوات الدراسية، خاصة الجامعية، تمثل فترة انتقالية بين المراهقة والحياة العملية. الطلاب لا يريدون فقط التعلم، بل وقتًا للتجريب، للتأمل، وللخطأ قبل مواجهة العالم.
4. اكتساب هوية اجتماعية
الانتماء لمؤسسة تعليمية يمنح الطالب هوية وانتماءً وشرعية مجتمعية، ويُخفف من الشعور بالضياع أو التهميش.
الفجوة بين ما يريده الطالب وما تقدمه المؤسسات
المشكلة أن كثيرًا من المؤسسات التعليمية لا تعترف بهذه "الوظائف غير المعلنة"، أو تتجاهلها. فهي تركز على المحتوى، والاختبارات، والمعايير الأكاديمية، بينما يُقوِّم الطالب التجربة على أساس مدى حصوله على وظيفة، أو انخراطه في شبكة مفيدة، أو شعوره بالنضج والثقة.
وهنا تنشأ فجوة خفية تؤدي إلى الملل، الانسحاب، وحتى الانفصال العاطفي عن المؤسسة التعليمية.
ما الذي يجب أن يتغير في التعليم؟
إذا أردنا لتجربة التعليم أن تكون فعالة، فلا بد من إعادة تصميمها بناءً على ما "يحتاجه الطالب فعلاً" وليس فقط ما "نعتقد أنه يحتاجه".
✔️ يجب الاعتراف بأن الشهادة ليست غاية، بل وسيلة… وعلينا أن نربطها بالقدرة الحقيقية على الإنجاز.
✔️ على المؤسسات أن توفّر مساحات وآليات لبناء العلاقات، والتوجيه المهني، والدعم النفسي.
✔️ يجب أن يُنظر للجامعة مثلاً على أنها بيئة تكوين شامل، لا فقط مركز معلومات.
ختامًا: التعليم كخدمة… فمن الزبون؟
إذا تعاملنا مع التعليم كـ "خدمة"، فإن الطالب هو الزبون الأول.
وإذا أردنا لهذه الخدمة أن تنجح، فعلينا أن نسأل بصدق:
ما الوظيفة التي جاء هذا الطالب ليستأجرنا من أجلها؟
هل نلبيها؟ أم نمنحه شيئًا آخر لم يطلبه أصلاً؟
التعليم الناجح لا يبدأ بالمنهج، بل بفهم الإنسان الذي يجلس في المقعد الدراسي… وماذا يريد أن يفعل بحياته بعد أن يغادره.
التعليقات