(بقلم: إسلام جهادالدين، ماجستير إدارة الأعمال، مُهتم بالشؤون الاقتصادية والإصلاح المؤسسي)

الاقتصاد والسياسية وجهان لعملة واحدة، إذا رغبت أن تفهم المشهد الإقتصادي فى دولة ما، يجب عليك تحليل وفِهم المشهد السياسي، والعكس صحيح. ولذا لفهم الآثار الإقتصادية للأزمة السودانية على دول الجِوار (مصر، أثيوبيا، جنوب السودان)، يجب علينا تبسيط وتقديم فهم عميق للأزمة السودانية، كيف حدثت؟ ولماذا؟ ومن هم أطراف الصراع؟ وما هي توقعات المستقبل؟

وهو ما أحاول تقديمه بشكل مُبسط لغير المتخصصين في هذا المقال..

بدأت الأزمة في السودان بسبب عِده خلافات بين أطراف السلطة حول خطة بدء عملية الانتقال لمرحلة سياسية جديدة مع الأطراف المدنية. بموجب الاتفاق بين القوي السياسية السودانية، كان يتعين على كل من القوات المسلحة النظامية السودانية وقوات الدعم السريع التخلي عن السلطة لصالح القوي السياسية المدنية. ولكن تفجرت الأزمة بسبب مسألتين محل خلاف بين الطرفان بشكل رئيسي. الأولى: هي الجدول الزمني لدمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة النظامية، والثانية هي توقيت وضع القوات المسلحة السودانية رسميا تحت إشراف مدني.

ولفهم الأزمة جيدًا يجيب علينا الإجابة على عِده أسئلة:

1. من هي القوات المسلحة السودانية، نشأتها ودورها:

هي الجيش الوطني والمؤسسة العسكرية النظامية. أنشئت في عام 1925 وهي الجهة المعترف بها، والمسموح لها بحمل السلاح وحماية الحدود والأمن القومي لدولة السودان. ومنذ تأسيس الجيش السوداني الحديث عام 1925 لعب الجيش دورًا رئيسيًا في السياسية السودانية حيث تولت القوات المسلحة السودانية السلطة بشكل مباشر في السودان خمس مرات:

الأولى في 17 نوفمبر 1958 بقيادة الفريق إبراهيم عبود.

والثانية في 25 مايو 1969 بقيادة العقيد جعفر نميري.

الثالثة في 6 أبريل 1985 بقيادة المشير عبد الرحمن سوار الذهب.

الرابعة في 30 يونيو 1989 بقيادة العميد عمر البشير الرئيس السابق للسودان.

الخامسة في 11 أبريل 2019 بقيادة الفريق أول أحمد عوض بن عوف وزير الدفاع ونائب الرئيس السابق عمر البشير.

ويمثل القوات المسلحة النظامية حاليًا، الفريق/ عبدالفتاح البرهان.

2. من هي قوات الدعم السريع السودانية، نشأتها ودورها:

هي مليشيا شبه عسكرية تم تشكيلها من قِبل الحكومة السودانية لتقاتل نيابة عن الحكومة في حرب دارفور. (حرب دارفور: هي نزاع مسلح بدء في فبراير 2003 في منطقة دارفور في السودان. بدأ عندما بدأت مجموعتان متمردتان هما حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة بقتال الحكومة السودانية بمزاعم أن الحكومة السودانية تضطهد سكان دارفور من غير العرب) وعلى خلفية حرب دارفور، ونظرًا لعدم رغبة الحكومة لانخراط الجيش النظامي في الحرب، قدمت الحكومة الدعم المالي والسلاح لميلشيات "الجنجويد" والتي تم تشكيلها من مجموعة من المدنيين وكانت النواة فيما بعد لقوات الدعم السريع.

وبعد انخفاض وتيرة الحرب في دارفور، استمر وجود ميلشيات "الجنجويد" وتطور دورها حتى أصبحت أكثر تنظيمًا تحت اسم "قوات الدعم السريع" وتنامي نفوذها بدعم من الحكومة السودانية. ومن المرجح أن رئيس السودان السابق عمر البشير قد حافظ على تقديم الدعم لتنامي دور قوات الدعم السريع حتى ينشأ نوع من توازن القوي بين القوات المسلحة النظامية وقوات الدعم السريع خشية النفوذ المتزايد للقوات المسلحة واحتماليه تأثير ذلك عليه في المستقبل. كما أنه يمثل قوات الدعم السريع حاليًا، محمد حمدان دقلو والملقب بـ"حميدتي".

3.    انفجار الأزمة!

بعد أحداث ثورة 19 ديسمبر 2018، توافقت جميع الأطراف بما فيها القوات المسلحة النظامية وقوات الدعم السريع ومختلف القوي المدنية على عزل الرئيس السابق العميد عمر البشير والذي قد وصل إلي السلطة في 30 يونيو 1989. تم تشكيل مجلس السيادة السوداني لإدارة شؤون الدولة في المرحلة الانتقالية، وقد كان المجلس برئاسة الفريق عبدالفتاح البرهان قائد القوات المسلحة النظامية، والفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائبًا.

وقام مجلس السيادة بإدارة شؤون البلاد وخلال عده جولات تفاوضية تم التوصل إلي توقيع اتفاق نهائي لتسليم السلطة للقوي المدنية في أبريل 2023.

ولكن ظلت أروقة ودوائر صنع القرار في السودان تتحدث عن خلاف كبير بين القوات المسلحة النظامية وممثلها "البرهان" وقوات الدعم السريع وممثلها "حميدتي"، تحدثت دوائر صنع القرار عن أن الخلاف لسببان:

أولًا: دمج قوات / ميلشيات الدعم السريع تحت إدارة القوات المسلحة النظامية:

اختلف البرهان وحميدتي على الجدول الزمني لدمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة النظامية، حيث أرادت القوات المسلحة النظامية أن تكون عملية الدمج سريعة خلال سنتان او ثلاث على حد أقصي. بينما رفضت قوات الدعم السريع ذلك وقالت إنها تريد الاحتفاظ بإدارة مستقله لمدة لا تقل عن 10 سنوات.

ثانيًا: توقيت وضع القوات المسلحة السودانية رسميا تحت إشراف مدني:

اختلف البرهان وحميدتي على توقيت وضع القوات المسلحة النظامية السودانية تحت إشراف مدني، حيث رغبت قوات الدعم السريع أن يصبح الجيش النظامي تحت إشراف مدني في أقرب وقت، في حين أن القوات المسلحة النظامية ترغب في المزيد من الوقت والتفاوض حول هذا الأمر.

ومع اقتراب الموعد المتفق عليه لتسليم السلطة (أبريل 2023) ومع احتدام الخلاف بين القوات المسلحة النظامية وقوات الدعم السريع وتشتت القوي السياسية الأخرى، بدأ الصراع المسلح بين القوتين العسكريتين الأكثر نفوذًا في السودان. القوات المسلحة النظامية بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي. ومع استمرار الصراع المسلح حتى تاريخ كتابة هذا المقال ومع عدم وضوع رؤية لكيفية حل الأزمة وعدم قدرة أحد الأطراف على حسم الصراع لصالحه بالقوة خصوصًا مع تداخل الأطراف الدولية وتقديم الدعم المالي والعسكري لطرفي الصراع مما يزيد الأمر تعقيدًا.

4.    الآثار الاقتصادية للأزمة السودانية على دول الجوار:

يعاني السودان من الصراعات والنزوح منذ اندلاع أزمة دارفور في عام 2003. وبحلول نهاية عام 2022، كان هناك أكثر من 3.7 مليون شخص من النازحين داخلياً، يعيش معظمهم في مخيمات في دارفور. ويعيش 800 ألف سوداني آخر كلاجئين في دول مجاورة مثل تشاد وجنوب السودان ومصر وإثيوبيا. وفي الوقت نفسه، كانت السودان موطناً لأكثر من مليون لاجئ - وهو ثاني أكبر عدد من اللاجئين في إفريقيا، معظمهم من جنوب السودان ويعيشون في محافظتي الخرطوم والنيل الأبيض. وبعض اللاجئين من إثيوبيا، إريتريا، سوريا، جمهورية إفريقيا الوسطى.

بحسب تقديرات مفوضية اللاجئين، قد يضطر حوالي 860,000 شخص للفرار من السودان بحلول أكتوبر إلى الدول المجاورة. استقبلت مصر أكبر عدد من الأشخاص، تليها تشاد وجنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وإثيوبيا. 

4.1 الآثار الاقتصادية للأزمة السودانية على مصر:

تتعرض مصر لضغوط اقتصادية نتيجة الأزمة السودانية المستمرة، حيث تتأثر العلاقات الاقتصادية والتجارية

بين البلدين بشكل كبير. وتشمل هذه الضغوط على سبيل المثال:

4.1.1      انخفاض حركة التجارة:

تتأثر التجارة بين مصر والسودان بشكل كبير بسبب الأزمة، حيث أن الحدود بين البلدين يتم إغلاقها في بعض

الأحيان، مما يجعل من الصعب على المستثمرين إجراء العمليات التجارية الطبيعية بين البلدين.

4.1.2      زيادة تكاليف الاستيراد:

تستورد مصر العديد من المنتجات من السودان، مثل الحبوب والخضروات والفواكه، وزادت الأسعار بشكل

كبير على التجار المصريين بسبب تقلبات العرض والطلب وعدم الاستقرار الاقتصادي في السودان.

4.1.3      تدفق اللاجئين:

تشهد مصر تدفقًا مستمرًا للأشخاص الفارين من الأزمة في السودان، مما يضع ضغوطًا على الموارد الحكومية

ويؤثر على الاقتصاد المصري. والذي هو أصلا في أزمة عميقة بسبب آثار جائحة كورونا، وآثار الحرب الروسية

الأوكرانية. وبُناء على تحليلي الشخصي، قد انعكست آثار تدفق اللاجئين إلى مصر في التالي: زيادة أسعار

الإيجار في المناطق الجاذبة للاجئين وخاصة أسوان كمحطة أولي لاستقبال اللاجئين حتى أن بعض من ملاك

العقارات يفرضون الإيجار بالدولار على الأجانب. بالإضافة إلي زيادة أسعار السلع والخدمات بشكل مبالغ فيه

على المواطنين واللاجئين في المناطق الجاذبة للاجئين.

4.1.4      أمن نهر النيل:

قد أدى الصراع داخل السودان إلى مخاوف مصرية بشأن أمن نهر النيل واحتماليه تأثره بالأزمة، خصوصًا في

ظل أزمة سد النهضة ودعم السودان للموقف المصري مما أدي إلى أضعاف الموقف المصري في ظل غياب

الدعم السوداني بسبب انشغال السلطة السودانية بالشأن الداخلي وغيابها عن الساحة الدولية.

وطبقًا لمفوضية اللاجئين، يتواجد بمصر حتى الآن حوالي 350 ألف لاجئ وطالب للجوء، ويشكل هذا العدد

الضخم ضغطًا على البنية التحتية المصرية ومعدلات النمو الاقتصادي، مما يتطلب ضخ المزيد من

الاستثمارات والمنح والدعم الدولي لتوفير فرص سُبل المعيشة والحياة الكريمة للاجئين بالإضافة إلى تخفيف

حِده الأزمة على الاقتصاد المصري. كما يتطلب التعامل مع هذه الضغوط تكثيف الجهود الدبلوماسية

والتجارية بين مصر والسودان لتحسين العلاقات وتعزيز التجارة والاستثمار

4.2 الآثار الاقتصادية للأزمة السودانية على جنوب السودان:

تؤثر الأزمة السودانية بشكل كبير على جنوب السودان، وذلك لأن البلدين يشتركان في العديد من الجوانب

الاقتصادية والسياسية والأمنية. وتشمل آثار الأزمة السودانية على جنوب السودان ما يلي:

4.2.1      تدفق اللاجئين:

تتأثر جنوب السودان بشكل كبير بسبب بتدفق اللاجئين الذين يفرون من الأزمة السودانية، حيث يؤدي هذا الضغط

الهائل على الموارد حكومة جنوب السودان وتفاقم الأزمة الإنسانية في البلد. وطبقًا لمفوضة اللاجئين، هناك حوالي

240 ألف لاجئ في جنوب السودان، النسبة العظمي منهم هم مواطني جنوب السودان كانوا يعيشون أو لاجئين في

السودان ثم عادوا بعد اندلاع الأزمة. مما يشكل ضغطًا على البنية التحتيه لدولة جنوب السودان، ويُعد إلتزامًا على

مؤسسات التنمية والتعاون الدولي لتصميم تداخلات سُبل المعيشة للعائدين من السودان ومشروعات وبرامج

التنمية الاقتصادية لدعم حكومة جنوب السودان لتحقيق تنمية اقتصادية.

4.2.2      تأثير الأزمة على الأمن:

أثرت الأزمة السودانية على الأمن في جنوب السودان، حيث زادت التحديات الأمنية بشكل كبير وتفاقمت

المشكلات الأمنية وخاصة في المناطق الحدودية المشتركة بين البلدين.

4.2.3      تأثير الأزمة على الاقتصاد:

تؤثر الأزمة السودانية على الاقتصاد في جنوب السودان، حيث تتعرض الصادرات السودانية إلى جنوب السودان

لتقلبات كبيرة، مما قد أثر على أتاحه المنتجات والسلع وتأثر النمو الاقتصادي في جنوب السودان.

4.2.4      الخلافات الحدودية:

تؤدي الخلافات الحدودية بين السودان وجنوب السودان إلى تفاقم الأزمة السودانية وتؤثر على العلاقات بين

البلدين بشكل سلبي خصوصًا مع تاريخ كبير من الشد والجذب بين البلدان.

4.3 الآثار الاقتصادية للأزمة السودانية على أثيوبيا:

4.3.1      التأثير الاقتصادي:

أدت الأزمة في السودان إلى تقليص التجارة والتبادل الاقتصادي بين السودان وإثيوبيا، ويؤثر هذا على الاقتصاد

الإثيوبي بالسلب حيث ضعفت حركة التجارة بشكل كبير. بالإضافة إلى تدفق المزيد من اللاجئين إلى إثيوبيا، وهذا

سيؤثر على الموارد والبنية التحتية في إثيوبيا ويزيد الضغوط على الحكومة الإثيوبية في توفير الرعاية اللازمة.

وطبقًا لمفوضية اللاجئين يوجد في أثيوبيا حوالي 85 ألف لاجئ.

4.3.2      التأثير الأمني:

أدت الأزمة في السودان إلى حدوث حالات تهريب وتسلل عبر الحدود بين السودان وإثيوبيا بشكل كبير، وهذا يمكن

أن يؤدي إلى تفاقم الجريمة المنظمة وتهديد الأمن في إثيوبيا.

4.3.3      التأثير السياسي:

تؤثر الأزمة في السودان على انخفاض وتدهور دور السودان السياسي في القضايا الإقليمية ذات الصلة لصالح

أثيوبيا. مما يتيح الفرصة إلي أثيوبيا لاستغلال هذه الأزمة في فرض الأمر الواقع والاستحواذ على المزيد من

المكاسب في القضايا الإقليمية وخاصة قضية سد النهضة.

  • رأي الكاتب وملخص عام:

وجهة نظري أن الأزمة السودانية زادت حِده الوضع في المنطقة (الشرق الأوسط) خطورة وتعقيدًا، خاصة بعد جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وحاليًا الأزمة السودانية بشكل متتالي، مما جعل مصر من أكثر الدول المتأثرة اقتصاديًا، سياسيًا، أمنيًا، بالصراع الجاري في السودان. حيث تدهور التبادل التجاري بين مصر والسودان بعد ما قد بلغ مليار و400 مليون دولار في عام 2022. كما أن موقف مصر السياسي في بعض القضايا الإقليمية قد تراجع بسبب ضعف الدعم السوداني كحليف، على سبيل المثال في قضية سد النهضة.

المستقبل ضبابي، غير مبشر في ظل تتابع الأزمات الإقليمية وتأثيرها السلبي على الاقتصاد المصري وهو ما يحتاج رؤية وتخطيط استراتيجي من حكومات دول الجِوار لتلافي آثار تلك الأزمات الإقليمية على المدي المتوسط والطويل.