أنا ذلك المسكون بالصمت، السجين خلف جدران لا تُرى، أُخفي ما يموج في داخلي كبحر يبتلع أسراره ولا يلفظها أبدًا. كلماتي، تلك التي كان يجب أن تقال، أذوب بها وأُحترق، لكنها لا تخرج، تبقى حبيسة بين أضلعي مثل جمرة تأبى أن تخمد. الكتمان هو سجني، وأنا السجين والسجّان معًا .
أحيانًا، يراودني البوح، يطرق عليَّ الأبواب كمن يريد أن يحررني، لكني أعرف أن الحرية ليست إلا وهما قاسيا. فماذا بعد البوح؟ هل يلتئم جرح أم يُنكأ ألف جرح آخر؟ هل تُشفى روحي أم أُسلخ علنا أمام قضاة لا يفقهون شيئا في وجع الكلمات.
جربت البوح ذات مرة، أطلقت سرا كنت أحمله كحمل ثقيل وانتظرت الخفة، انتظرت أن أتنفس كما يتنفس الناجون من الغرق... لكنني غرقت أكثر. خذلتني الكلمات خانتني كما تخون السكاكين ظهرا أعزلا. رأيت الخيبة في العيون، رأيت الشفقة،العاطفة المزيفة، رأيت من يحول أسراري إلى حكايات ألسن يتسلى بها في أمسياته الباردة. منذ ذاك اليوم، عرفت أن الكتمان وإن كان وجعا، فهو على الأقل وجعي وحدي.
لكن,هل الكتمان يرحم؟ هل يتركك دون أن ينهشك من الداخل؟ لا الكتمان وحش آخر، يأكل فيك رويدًا، يمتص ألوانك حتى تصير رماديا، يتغلغل في نبضك ويذغذغ مشاعرك حتى يصبح صوتك، نظرتك، وحتى ابتسامتك كلها محض زيف. الكتمان يحولك إلى ظل باهت، إلى شخص يعيش لكنه لا يحيا.هل جربت يوما أن تبكي دون دموع؟ أن تصرخ دون صوت؟ حيث يختلط شعور الحزن بثقل الكلمات المتضاربة في حلقك، لكن شفتيك عاجزتين عن النطق. هذا هو أنا، ظل بين عالمين، غارق في صمته. محترق ببقايا بوح لم يكتمل ...
لكن، وسط هذا التيه، وجدت ملاذا واحدا، ملاذا لا يخون ولا يخذل، ملاذا لا يسألني "لماذا تأخرت؟" ولا "لماذا لم تتحدث من قبل؟" أو "لماذا فعلت كذا ولم تفعل كذا" بل يفتح لي أبوابه كلما أرهقني الصمت أو أثقلني البوح. في الخلوات، حيث يسكن الليل أعماق الروح، ألتجىء إلى بوح صادق حيث لا يسمعني أحد، لا خذلان ولا شفقة، لا يسمع صوت سوى همس القلوب الخافتة.هناك بين دموع صامتة وأحاديث لا يبالي بها إلا الفجر .كنت أرفع يديّ إلى السماء وأبوح لله بكل شيء. رغم أن الكلمات تخونني أحيانا وتعجز عن وصف حالة من الحنين والألم ،إلا أن في هذا الصمت تنمو بذور الرجاء .أترك دموعي تتحدث، أطلق أنيني دون خوف، وأجد في رحمته دفئا لا تمنحه الدنيا، وبلسما لا تدركه القلوب القاسية.
لطف الله هو الذي يمسح على صدري حين تعصف بي الهموم، هو الهدوء الذي يغمرني بعد كل صلاة، هو الأمان الذي يجعلني أواصل رغم الخيبات، رغم الأوجاع، رغم كوني ذلك الإنسان الذي لم يفهمه أحد.
أنا أمضي بين الكتمان والبوح كمن يمشي فوق حبل مشدود بين هاويتين. في الأولى، أصارع أوجاعي وحدي حتى تختنق بي، وفي الثانية، أتركها تنهشني علنا. لكن بينهما، هناك طريق ثالث لا يؤدي إلى الهلاك، طريق لمن أرهقته الدنيا وما عاد يحتمل. هناك في ظلمة الليل، على سجادتي، وجدت البوح الذي لا يوجع، وجدت الله...وجدت النجاة.
التعليقات