لـ عبدالكريم المجاهد

الجارية والفرزدق

قد قيل في ما قالت العرب بأنه لولا الهمّام الفرزدق بن غالب بن صعصعة التميمي لضاع ثلث اللغة؛ كان الفرزدق لسان العرب وشاعرهم وكانت الناس تجلّه وتحترمه وتنصت لرأيه وقوله؛ وقد حدث أن جاريةً أرسلها أمير الدنيا والمؤمنين عمر بن عبد العزيز الأموي لاختبار عفة الفرزدق وأمرها بالدخول عليه لتنظيف بيته وأن تعرض عليه غسل رأسه ليرى إن كان سيوافق أم لا؛ وبالفعل طلبت الجارية من الفرزدق غسل رأسه فوافق؛ وعند خروجها من البيت فضحته بين العرب وصارت تتكلم عليه في أي مناسبةٍ تصح لها؛ تضايقت الناس من الفرزدق في بادئ الأمر وأنكروا عليه هذا وانتظروا ردًا منه؛ انصدم الفرزدق بعد سماع فضيحته وسكت؛ كان بإمكان الفرزدق أن يرد عليها شر الردود وأن يفضحها بقصيدةٍ فيها أشد السباب والهجاء؛ إنما لم يكن منه إلا أن صمت؛ بدأت الناس بعد مرور الأيام بتحليل الأمر من تلقاء نفسها؛ الفرزدق لم يغتصبها، ولم يطلب منها الزنا، ولم يؤذها بكلامه وقد كان يستطيع أن يفعل؛ قد كانا في ذات الموقف وكان يستطيع بأن يقول بأنها أغرتني، استدرجتني، رقصت لي، تلمست رقبتي، همست بأذني، لم يقل الفرزدق شيئًا من هذا وأكمل حياته بين الكتب واللغة والأدب والشعر؛ بدأت الناس تحلل في ذات الفضيحة؛ ما ذنب الفرزدق وهو الذي لم يُعطى عِصمة يوسف؟ وما هي عقوبة قبول غسل الرأس بالإسلام؟ جلدتان؟ نِصف جلدة؟ وهل هناك شهود على كلامها؟ بل ولو كانت المرأة بكل هذه العفة فلماذا وافقت أصلًا على الدخول عليه وعرضها له بأن تغسل رأسه!! ولو أنها تخاف أصلًا على فضيحتها فلماذا فضحت الرجل!! كلما مر الوقت تُكثر الناس من تحليلاتها؛ وما الذي أدرانا أصلًا بأن المرأة صادقة وهي بهذا اللسان السليط؛ ماذا لو أن الفرزدق عرض عليها الزواج!! ألا يكون بهذا قد حاول أن يحلل الجلوس معها؟ وما الذي يدرينا بأن تكون قد أحست بأن الدنيا قد كسرتها في الماضي فأرادت أن تكسر الفرزدق!!

 كان الناس الذين انزعجوا من فعلة الفرزدق في بادئ الأمر قد راجعوا أنفسهم في القصة كلها؛ وما زادوا عن قولهم بأن الجارية خبيثة؛ فهو لم يعتدى عليها ولم يهتك شرفها والجارية لم تُخدش ولم تؤذى فلماذا هذه الفضيحة كلها على الرجل! ولو طال فيهم التفكير لقالوا بأنها هي التي من أغوته، بلمسة، بنظرة، بكلمة، أو حتى بابتسامة؛ طَوت الناس ما قيل عن الفرزدق ونسيته ودفنته دون أن ينطق الهمّام بكلمة؛ وما ذُكرت الجارية في التاريخ إلا بخبثها؛ وما مل التاريخ من ذكر أشعار الفرزدق وأمجاده وفصاحته؛ الجميل بأن الفرزدق لم ينتقم من الفتاة بل ترك الدنيا لتنتقم منها وربما قد عَلِم الفرزدق بأن غباء الجارية جعلها تجهل بأن ما قالته بلسانها يُدينها ولا يدينه.

_______________________

والله من وراء القصد

3 آب/ 2023

لـ عبدالكريم المجاهد

المصادر: كتاب شرح نقائض جرير والفرزدق.