إن الأمان شئ قد يبذل المرء فى سبيله كل نفيس،فإن من طلب الحسناء لم يغليه المهر!، الأمان حضن أم، الأمان رئة معبأة بالهواء.

لا تكتمل إنسانيك إلا به، ولا تقرّ عينك إلا فيه؛ تمامًا كما نهدأ فى أحضان أمهاتنا أو نملأ صدورنا بالهواء دون الخوف مما سيحدث عند النفس القادم.

لقد كانت بداية اليوم معتادة ككل يوم؛ الجوع يأكلنا ببطء وأنيابه نتهش فى أضلاعنا،ونحن كذلك كنّا نأكل منه ولا نسلمه أنفسنا؛ فتبدو أرواحنا على المنايا عصيّة ولقمة غير مستساغة!، لستُ بدعًا من بقية الأطفال هنا فكلنا كنّا كذلك. أتَعرف؟؟ حينما يكون الجميع

متشابهين فى الفقد فإننا ننسى أو نتناسى فقدنا!.

إن الفقر هنا يخيم على الأجواء، ولديه سُلطة الكلمة الأخيرة، كفّه تهوى بغشم على أرواحنا المتداعية فتحصد منها ما شاء الله لها أن تحصد وتدع الباقى للرصاص والقذائف لتولى الامر ! وإنّ كفّ الفقر والجوع لو هوت على جبلٍ لتصدع من وقع الألم!

كانت حياتى تفتقر للأمان وتحتشد على أبوابها كل يومٍ الأسباب التى ترغب بقضمها وقصف شعرتها المتنامية من الجذور ولكن... كان فيها أمى وابى!

فكيف الأن وقد فقدتهم أيضًا.... إننى تائهةٌ فيَّ فأنَّى لي بالإهتداء إلى معرفة هذا العالم وأين أحطّ الرحال وقد هُدمت الخيمة وشرد الجمل وما عاد في طريقي بدونهما للخُطَى أثر...؟!. لم يبقى للعربيُّ أرض ولا ناقة يا أمى!.

كنت نائمة، وفى الصباح حينما استيقظت وجدتُ أبى متكومًا على نفسه فى أحد زوايا الغرفة الواحدة التى نمتلكها، إن روحه هلكى هى الأخرى، وأمى تجلس أمام الشعلة تعد لنا طعامًا ـ أو تتظاهر بذلك حتى لا تحزننى،لذلك فقد أعتدت على الجوع وروضته حتى لا أرى عينىّ أمى كسيرة بسبب قلّة الحيلة ـ، فإذا بنا نسمع هياجًا وصرخات قد أختلطت مع الصوت العالى الذى يصمّ الآذان والذى كنّا نعرفه جيدًا،لقد كنّا ننام ونصحو عليه وكلما سمعناه تأهبنا عسى ان يكون دورنا، إنه صوت الموت، إنذاز بمجيئ الملك لاصطحابك إلى العالم الأخر حيث لا تعب ولا شقاء، نحن كنا نعرف الموت ونحبه، إنه مخلّصنا مما نحن فيه وإن كان الفراق ذابحًا، هل شاهدت شهيدًا يكره الردى؟!.

ثم فى لحظة فارقة حدث كل شئ، لقد إنهدّ الجدار وتداعى السقف فوق رؤسنا كان كل شئ يحترق، وصوت دوىّ الأنفجار إثر وقوع القذيفة فوق منطقتنا إمتدد فى الأفق كصدى الصوت فى الأرض الدوّ.

حينما شاهدت ما يحدث مشدوهةُ هُرعت إلى الخارج من هول الصدمة، كان أبى يحترق وزاوية المطبخ قد تهدمت كليًا وأختفت امى وراء الرماد.

سحبنى الناس من بين الحطام على آخر لحظة قبل أن تصير الدار فندًا كانها لم تكن.

لم يكن هناك بين الأنقاض إلا أشلاء ماضىّ وحاضرى ومستقبلى، كله قد انهد فى لحظة وبلا أدنى جريرة، لقد سُحبت حياتى وبسمتى منى بلمح البصر كسحب البساط من تحت قدم آمن مطمئن فجأة.

كنت أفتش بأظافرى الضعيفة وسط الرماد عن بقايا من حياتي ولو شذرات، وخيوط الارجوان ترسم خارطة البلاد وتسقي الارض لترتوى فتعود لها شئ من الحياة.

لم ينج سوى روحي الجاثية على هوّة الموت والميتة فى تلك الهاوية وكتبى! لقد كنت أدرس حين قُصفت دارنا وهرعت للخارج بها، لم ينج الماضى ولا الحاضر، فهل ثمة من أمل فى المستقبل..؟ لست أدري ولكن العتمة الآن طاغية، ورائحة الموت تعبق بكل مكان....

✍🏻هدى منير