" السطحيّون مضطرون للكذاب دائماً ، بوصفهم محرومين من المضمون "
نيتشه Nietzsche
ليلة زواج مولانا "هشام ", كانت ليلة وفاء حاشدة وغير مسبوقة للوالد " ود مرجان " الكبير , الكابتن المخضرم والذى حمل شعار النادى الهلب , ودافع عنه بجساره وفى أحلك الظروف , والشهير بصولاته وجولاته فى عالم المستديرة , ثم بعد ذلك الا دارى الفذ والاب الروحى للنادى , والذى قدم وما زال يقدم , ونحن من خلفه ونشد من أزره , الغالي والنفيس فى سبيل النادى ورفعته ..
أمام أعيننا يومها , يتوافد الانداد نجوم العصر الذهبى جميعا , ومن كل الفجاج والانحاء ولو عددتهم لم يتخلف أحدا الا انت .. , الوجوه الطازجة النيرة , وحكاويهم العبقه والمحبوكه , والتى تعطرالاجواء وتشيع البهجة والانس والمرح , وبين الفنيه والاخرى تسمع من هنا أو هناك أخرنكات لـ " دى شايقى " , وقفشات ريحانة الملاعب كلها ومجالسها " سينا " الذى لن يتكرر, بل تكاد مقالب " ود الديم و محينة " حيه تمشى بيننا , وفى لمحه زمن ومباشرة يستدعون أزمنة " ترنا ودرار " ويوثقون لدهاقنة اللعبة " ود التوم وودالزبير وعمرموسكو ودوكة والعاتي وبشير عباس " , والتى تضاهى مواضيهم , فى غرابتها أساطير من قبيل الالياذا والاوديسا , وبالتالى أستعدادهم الدائم والحصرى , لدفع ضريبة الانتماء , وحبهم وعشقهم للموردة نفسها , حيث النشأة الاولى وحواريها المتواضعه والبسيطه , والتى مازالت تقطر طيبه ومحنه , ثم تلك المعزات والتى لم تهن فى عيونهم يوما ما .. .
ليلتها أذكر القمر بضيائه الباهي كان بدرا عاليا , ونحن شلة نتسامر فى حوش أولاد " البلال " , بينما تأتينا من أطراف بانت , وبوضوح أصداء الحفل والفنان المخضرم الكبير" أبوداود " وليس غيره , يشنف الاسماع تلك الليلة بالذات , بدرر منتقاه من أغاني العديل والزين , و" حمدى " مزيع حفل ذاك الزمان الجميل " , ينوه بحضوره الطاغى بين الفاصل والأخر , بأنضمام المزيد من عمالقة الفن والابداع , وأن الليل فعلا مازال طفلا يحبؤ , وان المفأجاءات بالطبع ستتوالى تباعا .
وقتها عرجت بالطبع , على منزلنا الكائن بشارع الفيل سريعا لتغير ملابسي للحاق بالحفل الاسطورى , لأجد للتوه وفى أنتظارى مفاجئة لم أحسب لها , ومن نوع أخر مختلف بل ومن العيار الثقيل , لشلة أو قل كومة معتبرة من أولاد أعمامى وعماتى وخالاتي , ينتظروني لتناول عشاء خفيفا , ومن ثم الذهاب سويا للحفل , فهم ومنذ رحيلهم عن الحي وتفرقهم بنواحي الخرطوم والثورات , أضحوا صراحة هكذا من البين بين والمشكوك فى ولاءهم المطلق للنادى, والتحول ربما عنوه لولاءات شتي لأندية الضد , بينما نحن أصبحنا حقيقة , وحدنا القابضين على الجمر وأسياد الوجعة الحقيقية وبس .., وبينما كنا منهمكين فى الدردشه والاكل , قلت لهم مداعبا بسلاطة لسانى المجبول عليها , وليتنى لم أفعلها :
ـ " أه ما عزمناكم وقلتوا ما بتجوا الموردة تانى ..أه قولوا لى أسع الجابكم شنوا ؟ دى يا ناس ما موردتنا .. طبعا ودائما فوق .. فوق .. " , لينبري لى فجأة وبلا تدبر ومن حيث أدرى .. , ومن دونهم كلهم أبن عمتي الصحفي اللاذع "هيثم " قائلا :
ـ "يا كابتن " توحة "نحن ما جينا عشان فريق الموردة .. نحن جئنا نواجب زميلنا وحبيبنا مولانا " هشام "وبس .. ماتدخل دي فى دي .. اا .., وليواصل بأسفافة وطول لسانه ..:
ـ ثم ثانيا أنت وعمك "طلال " تفكيركم كلة الموردة ..الموردة هو خلاص كبر ولحد أسع ماعرس ؟ وأنت أكيد لاحقه .. بس خليه يلحق نفسة ويعرس .. قول لية الموردة ملحوقه .. "
لتفض بعدها فجاة جدتي " زهرة " بنت شعيب , يدها من الأكل وتتذكر سلة الفاكهة , التى تحتفظ بها دائما , لتقديمها لى فى وجبة العشاء , فحبها وتدليها لى لا يخفى عليهم , وهذا ما يحز بالطبع فى نفوسهم , لأنها دائما ما تشملنى برعايتها الأثره من دونهم كلهم , لاسرافى البغيض أنا شخصيا حتى فى أمرى, فقد أتناول طعام الغذاء فى دكان والدي كالمعتاد , أو حتى قد لا اتناوله أطلاقا فى أحائيين كثيرة طوال اليوم , للمشغوليات الجمة التى أحيط بها نفسى فعليا , والتى قد يعرفونها أو لايعرفونها , والتى ربما تنسيني حتى من تناول الوجبات بانتظام والمحافظة على صحتي المتوعكة دائما , وهذا ما أثار فعليلا غيرتهم وبدوا يطنطنون :
ـ " طبعا كل شي لدكتور المستقبل .. ولوما جامعة الخرطوم .. البعثة ممكن تكون جاهزه للندن وكمان عديل كدا... " , ومن هناك أخر السفره يأتى مايشبه تأجيج النيران , ليقول قائلهم والذى لم أتبينة حتى اللحظة والمتموسح بمسوح الواعظين , رأس الأفعى "عماد ":
ـ وانتوا أسع ياناس قولوا لى حاسدين ولا بقرانين .. وحتى ولو فرضنا جدلا أنوا .. دا دلع الفقارة يا ناس .... وطلباته كلها مجابة وفى العين والراس ..
ـ أنتوا يا تعبانت مالكم ما هو فى الأصل .. الوريث الوحيد للكابتن جدنا " طنون " الاول...القالوا كان بطلع عديل فى الكفروالوتر ؟؟, لينفجروا بعدها ضاحكين , ويتسلل بعد ذلك وفى تزامن غريب ومزهل , سؤال " عفراء " بنت عمتي " حورية " الفخ والمراوغ , والمستبطن وقيعه قائله وعلى مسمع من الكل :
يا حبوبه " زهرة " أها رأيك شنوا فى عرس مولانا " هشام ود مرجان دا ؟ " , لترد عليها وبكل طيبة خاطر وميمونية , وهى خاليه ذهن تماما بل ولا تدري , بأنها كم هى مستدرجة , لتقول لهم :
دا واللة ما عرس السرور .. وتمام التمام .. وفعلا عرس الموسم .. , واللة من ما قمت وتبيت .. وشفت الاعراس كلها هنا وهناك .. , ما شفت ولا سمعت بعرس زيوا فى العظمة والفخامة .. وكترة الفنانين فى حياتي وفى أدرمان كلها .. الا عرس " أولاد منصور " البحكوا بية الناس فى القلعة ", لتختتم حديثها بكل أطراء أومجرد أمنيه بسيطه عابره قائله :
يا ريتوا بعد دا ..عرس ولدى " عبد الفتاح " , لتكتمل بالتالى فصول اللعبة , وتلك المسرحية السمجه وحلقة أستدراجهم لها , لينفجروا جميعا وفى ضحكه واحدة مجلجله , وليردوا بعدها متهكمين وبصوت واحد :
ولدك عبد الفتاح " توحة " دا .. عيش يا حمار .. " , ليتواصل بعدها بالطبع وفى تحدى مسلسل ضحكهم , والذى لم يوقف سيله العرمرم هذة المره , سواء تدخل والدتي الحاسم لترد على أستهزاءهم , بشخصي الضعيف , وسؤ طويتهم بفجاجة وغلظة يستحقونها عن جدارة , بل ورافعة فى الوقت نفسة أسهم غلاوتي علنا قائلة:
هوى أنتن يا السامعاكن يا بنات " فائزة وحورية " ما تفتحن نفسكن فى ولدى دا ..أسمعن الحاضرة تحدث الغائبة ولدى البتضحكن فيه دا .. عروسة الحيعرسا .. لحدى أسع من بطن أمها حتى ما فكروا يلدوها .. "
لو عندكن شوفا غيروا .. أحسن ليكن من أسع تشوفنها " , بالطبع وأمام جديتها وغضبها البائن وردها الشافي , أنقطع بالفعل مسلسل ضحكهن , وتحول الى ضيق ووجوم مطبق , ولم يكن أحد منهم يتصور حدوثه , بل وسرعان ما هبوا مسرعين للحاق بالحفل وأنا معهم , وهم على قناعة مسبقة , بموقفي المبدئي من الزواج نفسه وقيوده المكبلة , ورغبتي الكامنة فى أن أعيش أبد الدهر حرا طليقا من قيوده الزوجية المكبلة , ومن التحفظ والذى كانت دائما ما تبديه والدتي نفسها من زواج الأقارب , وتجرعهم المررات كما يتقولون من زواج أختى " هيام " من ابن خالتها " عارف " والمشاحنات اليومية بينهم , التى دائما ما تكاد لو تعصف بحياتهم الاسرية , لولا تدخل الأجاويد , من هنا وهناك , وتطلعهم من جانب خفى الان لترتيب لى زيجة مريحه , وبعيدا من الأقارب وبذات المفهوم والتصميم , بل وبعد أسبوع من هذة الواقعة , والتى حسبتها ستمر مرور الكرام , كأي سخافه عابره الا أننى لم أشعر بعدها الا وأن والدتي وجدتي , وبعد ذلك والدي الذى لا حول له ولا قوة مثلى , فى مثل هذةالامور المرتبة يسايرهم فجاة , هو الأخر قائلا :
ـ " فعلا الود دا راسة كله بقه .. كوره .. كوره .. , ذي عمة "طلال " جاء من اميركا بعد سبعة سنين ورأسوا كله برضوا الكورة والموردة .. , وأسع خلاص كبر وشعرة بقى قطنه .. " , ليواصل :
عقدنا لية مجلس عشان نعرس ليه .. ساب موضوع مجلسنا ومسك لينا فى ديك يا السيرة .. الموردة بكرة عندها ماتش هام.. مع الأمل عطبرة درون نطلع .. غالبين نطلع .. لكن نعمل شنوا والناس ما شادا حيلا معانا .. ؟ " ثم :
الموردة بعد رمضان جايهي عليها .. فك تسجيلات والخزنة ما فيها التكتح ..؟ أه الولد دا طالع زيوا .. أحسن واللة ينقرع ومن أسع وقبل مايكبر اا ", بل يبدوا أنهم قد أخذوا التفكير بجدية , فى موضوع خطبتي وزواجي , بل ومن همسهم المتواصل توصلت الى أنهم , أتفقوا فى ما بينهم على عمل ما , لم أدرك كنه حتى الان , ولا حجمه وأخفوه بالتالى عنى , وللتزامن العجيب اننى كنت شخصيا على أعتاب الدخول للمرحلة الثانوية , عندما أخذتني جدتي " زهرة " ذات يوم كعادتها السنوية , قاصدين الميناء البرى للسفر لرفاعة لزيارة خليفة جدي الشيخ "ودعبد الصادق "راجل المندرة , وفى تقاطع ابوحمامة بالضبط أوقفت جدتي الحافلة فجأة , لتسر لى بعدها بان علينا اليوم زيارة حاجة " حسنية " أولا , زميلتها فى مدارس الاحفاد القديمة وفى بيتهم الكائن بالحلة الجديدة , فاليوم سبوع بنتها " ناهد " , بالطبع أستقبلونا بالترحاب فى منزلهم الفخيم العامر , واكرموا وفادتنا وعندما هممنا بتوديعهم , التفتت نحوى جدتي ولتقول لى بلهجة امرة متطلعة :
" أه تعال يا ولد يا " عبد الفتاح " سلم على العروسة بنت القرير لزم " لتواصل حديثها وهى تطبع قبلة حانية على رأسها :
" صلاة النبي .. بسم الله .. ماشاء الله ..عينى عليها باردة شن سميتوها ؟ " لياتى ردهم الذى لم أنساه أبدا وحتى اللحظة :
" سميناها "حلا " ياحاجة " زهرة " لترد عليهم مع زغرودة صكت أذنى :
"عاشت الاسامى ", بالطبع وعندما أخذنا البص بعد ذلك ونحن فى طريقنا للجزيرة , أخذ شريط طويل من الاحداث كلها يتداعى أمامى , بل أزدت فى الحقيقة أرتيابا , على أرتيابى الاول وأنا أحاول دون كبير عناء , الربط بين كلمات والدتي :
" ولدى دا .. لسع عروسة الحيعرسا .. لحدى أسع ما ولدوها من بطن أمها .. " ثم جدية جدتي الان ولهجتها الإمرة لى :
" يا ولد يا "عبد الفتاح" سلم على العروسة .. " ثم توزيع الفاكهة والحلوة بعدها والشربات وبطعم الأقحوان , ثم زغاريدهم الصاخبة التى شنفت الاسماع , عندها فقط أخذت أتوجس مرتعب داخلي وأقول :
" شنوا الحكاية بالضبط ؟.. يا ولد يا " عبد الفتاح " ..
العروس المنتظرة القالواعليها .. خلاص ولدوها ولا شنو .. اا .. , بعد ذلك وطيلة فترة سفرى , لم تلتقى عيناي وعيون جدتي , بل يبدوا لى الان بان تصميمهم هذة المرة لايفلة الحديد .. .
تمت ,,,
فتحى عبد العزيز محمد
ـ سوداني
الرياض – العليا - برج المملكة
5 /8/2006م