إنسان هذا العصر هو الإنسان الوحيد، على مر العصور، الذي يحاول أن ينفصل عن "القبيلة". النحل ، النمل ، الجواميس ، الذئاب .. كلهم كائنات تعيش و تموت ضمن مجموعات. و لعل استمرارية الجنس البشري كان بفضل هذا المبدأ الكوني ، مبدأ القبائلية.

حين ننظر إلى كل شيء في الطبيعة، من الواضح أنه هنالك أساس اجتماعي تقوم عليه حياة مختلف الفصائل الحيّة .الطيور تعيش ضمن أسراب، والذئاب تعيش في قطعان من 6 إلى 7 أفراد (عادة أفراد عائلة واحدة)، وقرود الغوريلا تعيش في مجموعات من 4 إلى 30 غوريلا. البشر بدورهم، من بداية الإنسانية وحتى وقت قريب من التاريخ، كانوا يعيشون في عصبة تضم 30 إلى 50 شخصاً. العيش في مجتمعات أكبر من 150 شخص هو تطوّر حديث نسبياً في التاريخ البشري، بدأ منذ نحو عشرة آلاف عام مع بدأ الثورة الزراعية، بعد نحو 400 ألف عام قضاها البشر ضمن عصب صغيرة ومجتمعات صيد وقطاف.

عيش الحيوانات في مجتمعات صغيرة له أسباب عمليّة وعقلانية؛ العيش ضمن مجموعة يحسّن من فرص بقاء أفراد المجموعة ويؤمّن ازدهارهم. حجم هذه الوحدات الاجتماعية ليس عشوائياً أيضاً. إنه كبير لدرجة كافية لإعطاء أعضاءه فوائد مهمّة (التعاضد الحياتي المتبادل بين الأفراد هو أساس العصبة)، لكنه ليس كبير لدرجة تسبّب صراعات كبرى بين أفراده أو ليكون فيه انقسامات طبقية جوهرية (هذا ما أسماه كارل ماركس المجتمع الشيوعي البدائي).

ماذا أقصد من كلّ هذا الكلام؟ القبيلة هي الحالة الطبيعية للبشر، والعيش كأفراد منعزلين وحيدين يحمل كل منا جهازا الكترونيا في يده متوهما أنه يعيش حياتا اجتماعيتا سليمة بدون أن يكون هناك تفاعل مادي طبيعي وفطري مع باقي الأفراد هو استثناء وحدث طارىء في التاريخ البشري. .

إستطاع الإنسان الحالي بالفعل أن يصل إلى أعلى مستويات الذكاء و تمكن أيضا من أن يوفر لنفسه أفضل أسلوب عيش منذ أن ظهر نسله على هذا الكوكب . لكننا لازلنا موت .. نموت بؤسا ، قهرا، ننتحر و نجن فقط لأننا إعتقدنا أننا لن نحتاج مرة أخرى لأن نكون ضمن القبيلة ، وضعنا ثقتنا في بضع خوارزميات و سلمناها مصيرنا .

القبيلة ليست مجرد أسلوب في التنظيم الاجتماعي فحسب، بل هي وسيلتنا للبقاء وهي جزء من هويتنا ولها تأثير مباشر على صحتنا وسعادتنا. السوسشيال ميديا تجعلنا نتوهم أننا نعيش حياة اجتماعية و نحن منعزلين أمام أجهزتنا الذكية و هذا ما يخلق فجا عميقا و تضادا بين طبيعتنا و فطرتنا الأساسية و ما أنتجناه ، و النتيجة : إنسان مكتئب تائه متوتر مريض و منهك .

نحن لم نخلق لنعيش وحدنا في هذه الحياة. الجميع يتفق على ذلك، لكن ما يجب أن نتصالح معه هو أن عدم العيش وحدنا يعني العيش في قبيلة متقاربة من مجموعة صغيرة من الناس. حين نقول قبيلة، لا نعني مجموعة من الرجال يمتطون الخيول وينصبون الخيام في الصحراء ويحتسون القهوة (مع أني سأحبّ ذلك شخصياً)، القبيلة هي عصبة محكمة من الناس الذين يأتمنون حياتهم لبعضهم البعض ويعتمدون على بعضهم البعض لتأمين بقائهم وتحقيق ازدهارهم وتأمين حاجاتهم المادية والروحية في الحياة.

سنموت قهرا و بؤسا و نحن نتوهم أننا ببضع لايكات و صداقات إلكترونية نعيش حياتا حقيقية . سينخر القلق و الاكتئاب ما تبقى من العقول الصامدة و نحن نتوهم أننا نبني علاقات إنسانية خلف الشاشات ، سيكون العالم معتما و باردا إن لم نسترجع أنفسنا من هذا السجن الالكتروني.