من أكبر آفاتنا الفردية والجماعية كثرة الكلام وقلة العمل، فنحن نتحدث كثيرا ونعمل قليلا، وكلامنا المتهاطل المتدفق يوشك أن يبرهن على مرض يسميه الخبراء النفسيون السيلان اللغوي أو اللوغوريه. وقليلا ما تجد فينا من يؤثر العمل على القول، ومن يترجم كلماته وخطبه ووعوده إلى برامج عملية يراها القريب والبعيد والخصم والصديق.
في منابر الإعلام والملتقيات والندوات يتردد كلام كبير حول الإصلاح وضرورته، وحول الديمقراطية ووجوبها وحول الشفافية والموضوعية وبرامجها، وحول الحق والقانون وكلمات كبيرة أخرى، لكنها تخرج ميتة من الصدور خالية من المعاني والدلالات، وما ذلك إلا لأن الذين يبشرون بها هم أول من ينتهكها ويخالفها ويعمل عكسها.
ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على واقعنا لنرى مصداق ذلك. ويكفي أن ننظر في منظمات المجتمع المدني على اختلاف في الألوان والانتماءات وما يتردد فيها من دعوات إلى الإصلاح والاستقامة والتخليق، في حين لا تجد صدى من تلك الدعوات عند من يرددونها وكأن الآخرين هم المعنيون بها لا غير.
والواقع أننا في حاجة أولا وقبل أي شيء إلى نماذج بشرية تدل أعمالها وسيرتها على مبادئها وشعاراتها، وتترجم الأقوال إلى برامج ومناهج تجعل مصلحة بلدها وأمتها فوق كل اعتبار، وتبدي استعدادها للتضحية بالغالي والنفيس من أجل الصالح العام، ولو اقتضى هذا التنازل عن الحقوق الشخصية والفئوية.
ولذلك بعث الله للناس رسلا وأنبياء هم في حد ذاتهم نماذج رفيعة للبذل والخير والإيثار وقول الحق والقيام بالقسط والعدل وإقامة الميزان، ولو استغرق ذلك كل حياتهم أو أدوا من أجله ثمنا باهظا.
من أجل كل هذا ولغيره، فنحن في حاجة إلى النماذج قبل البرامج، وفي حاجة إلى الأفعال النبيلة قبل الكلمات الطويلة، وفي حاجة إلى تخريج للأطر النموذجية الحية التي يراها الناس في كل مجال وقطاع، فتغريهم باتباعها وتعيد الثقة في إمكانية الإصلاح، وتخرجهم من حالة الانسحاب النفسي والاجتماعي واللامسؤولية لينخرطوا عن حب ورغبة في إصلاح ذاتي جماعي للبلاد والعباد، ولقطع الطريق على التطرف والجهل الأعمى والحقد والكراهية. ومن دون شك فإن هذا أول واجب على النخبة السياسية والثقافية والتربوية والدينية على اختلاف مؤسساتها.