قبل أن تتحول الدجاجات إلى ديكة والذهب إلى سراب!
بقلم :نسيم الصمادي
يعمل الدكتور "وليام ميور" أستاذاً لعلم الحيوان في جامعة "بوردو" في "إنديانا"، ويتخصص في تحسين الأنواع والتوليد وزيادة الإنتاجية. ومن أشهر تجاربه المعملية محاولته زيادة إنتاج الدجاج بتوليد نوع خارق منه لمضاعفة إنتاجيته. قامت تجربته على فرضية بسيطة مؤداها أن الدجاج الأكثر بيضاً هو الأفضل نوعاً. وانطلاقاً من نظرية الانتقاء الطبيعي، فإن تزاوج الأفضل سيؤدي تلقائياً إلى إنتاج أنواع من الدجاج والبيض ذي إنتاجية تتجاوز المعدلات المتعارف عليها.
عزل الدكتور "ميور" أكثر الدجاج بيضاً وزاوج بعضه لبعض. وقد فعل ذلك ست مرات، حتى انتهت تجربته بموت كل الدجاج في نهاية المطاف. وفي تفسيره لهذه الظاهرة أدرك عالم الحيوان الأمريكي أن الدجاج الذي ظنَّه الأفضل، كان يُحقق تلك الأفضلية بقمع ونقر وإنهاك وحرمان بقية مجتمع الدجاج، فعندما اجتمع الدجاج القوي في حظيرة واحدة، ظل يمارس سطوته ونفوذه وقهره لغيره، حتى أتى بعضُه على بعض، وآل مجتمعه إلى الفناء.
يؤكد علماء البيولوجيا والأنثروبولوجيا والاجتماع والإدارة هذه الظاهرة، ويعتبرونها حقيقة علمية؛ بل ويذهبون إلى أنها تسري على الحيوان والإنسان معاً، وتنطبق على العلاقات الاجتماعية ومُخرجاتها بين: الأفراد والمنظمات والمجتمعات الصغيرة والكبيرة، وبين الدول أيضاً. فتشكيلُ فريقٍ من الموهوبين لا يحقق أفضل النتائج، وإدارةُ اقتصاد دولة بانتقاء الأذكياء والأقوياء والأثرياء فقط، سيؤول بعد ستة أجيال على الأكثر إلى الفشل، وهكذا. وفي هذا تفسير جليٌّ لأسباب فشل النظام العربي من المحيط إلى الخليج، والذي سيكون الفناء مآله إذا استمر على حاله.
تنحو الدولُ والمؤسسات التي يسوسُها قائد يظن نفسه خارقاً إلى الاستقطاب بالضرورة، والاستقطاب يُلغي التفكيرَ الجمعي، كما يلغي الثنائية الإيجابية التي تجعلنا (أنت + أنا = نحن)، وتنتج طبقية حزبية أو دينية أو عسكرية أو قبلية أو رأسمالية أو إدارية تؤول بقطبيها السالب والموجب؛ أي القيادة والمجتمع، والحاكم والرعية، والقوي والضعيف، والغني والفقير، إلى الفناء! فلماذا يحدث هذا؟
بناء أي مجتمع وأي تنظيم وأي نظام مؤسسي على أساس الصفوة مقابل العامة، والأغنياء مقابل الفقراء، والأذكياء مقابل الأغبياء، والأقوياء مقابل الضعفاء، يخلق حالةَ استقطابٍ فيزيائي وكيميائي وبيولوجي واجتماعي ومؤسسي وفق نموذج: (خيار وفقوس) و(أصول وبدون). حدث هذا على مستوى الأمة، فوجدنا استقطاباً بين الخليج واللاخليج، وبين النفط والقحط، وبين المتطرف والمتصوف، وبين العسكري والمدني، وبين الديني والعلماني، وبين الحب والحرب، وبين البيروقراطي والجدير، وبين المستثمر والأمير، وهكذا. وهذا هو الفرق بين القطبية والثنائية. الثنائية هي أولى خطوات الديموقراطية التعددية، وبها تُدار دولة مثل أمريكا منذ مائتي عام، وهو ذات الفرق بين الابتكار والاحتكار، فالابتكار يبدأ بتكافؤ الفرص، أما الاحتكار فيُحوِّل السُّلطة إلى "سَلطة"، ويخلق من الدجاج المُسالم قطعاناً من الإرهابيين يقتل ويَنقُر ويقهر بعضُهم بعضاً.
في النُّظم الثنائية والتعددية العادلة والمتعادلة، لا مكان للاحتكار والاستقطاب، إذ يقفُ الطرفان على أرضيةٍ مشتركة، فلا تُفرقهما الاختلافات البسيطة، وهي بداية لتجربة إنسانية ثريَّة تؤدي بالمنظمات والمجتمعات إلى استثمار "رأس المال الاجتماعي" والثقافي والإرث التاريخي والجغرافي، فتُبدع في استثمار رأس المال الاقتصادي.
في كتابه "الثقة"، يتحدث "فرانسيس فوكاياما" عن دور الثقافة والفضائل الأخلاقية والقيم الاجتماعية في الإعمار والازدهار، ويُعرَّف "رأس المال الاجتماعي" بأنه: "قدرة أبناء الأمة والمجتمع وأفراد المنظمات على العمل معاً لتحقيق هدف مشترك". لقد شاع استخدام مفهوم رأس المال البشري والاجتماعي حتى بين الاقتصاديين، على اعتبار أن رأس المال الحقيقي لا يتمثل في الأرض والموارد الطبيعية والآلات والتكنولوجيا، بل في الإنسان، بما يملكه من معارف ومهارات وعواطف ودوافع وعلاقات. وتبقى القدرةُ على العمل في فِرَق والترابط والتآزر والتحاور والتلاحم مع الآخرين أهم هذه العناصر.
وعلى العكس، تنتشر في المجتمعات التي تفتقر إلى الثقة ظاهرةٌ يسميها الاقتصاديون "الركوب المجاني"، أي استفادة الفرد بما تقدمه المجموعة أو الدولة من مميزات دون أن يساهم بأي جهد لتحقيق أهداف المجتمع. وتتضح هذه الظاهرة أكثر في المجموعات الكبيرة، وخصوصاً عندما تُسخَّرُ المجموعةُ أو الأغلبيةُ لخدمة الأقليةِ، والعامة لخدمة الصفوة، فيستفيد من "يركب" الكُرسي أو القانون أو الشعب، من دون أن يساهم في تحمُّل مسؤولياته. وفي النهاية تحدث الأزمات عندما تضطر المجموعات الكبيرة والمجتمع، إلى إجبار الراكب بالمجان على تحمل مسؤوليته. ولهذا فإن الدول الديموقراطية تستثمر التعددية، مثلما تستثمر المنظمات والشركات الصغيرة الشفافية، لتمنع المتطفلين والاحتكاريين والقادة الاستغلاليين من الركوب بالمجان.
أثبتت تجربة تصنيع الدجاج الخارق أن سلوكيات النقر والقهر والشَّخْر، تُفرخ الأزمات قبل أن يبيض الدجاج ذهباً، وهذه النظرية تؤكد أن أزمة الرأسمالية العالمية التي عصفت بالعالم عام 2008 بسبب غياب الشفافية واللامساواة، لا تختلف عن أزمة الربيع العربي في شيء، حتى ولا في التوقيت، فقد بدأت الثانية قبل أن تنتهي الأولى. وربما أن هذا ما جعل من يجلسون على كراسي رأس المال العالمي أمثال "بل جيتس" و"الوليد بن طلال" و"وارين بافيت" و"جاك ما" وغيرهم من الأثرياء الحكماء، يتبرعون بثرواتهم لأعمال الخير ويوقفونها من أجل الصالح العام، وهم في قمة مجدهم، وقبل أن تتحول الدجاجات إلى ديكة، والذهب إلى تراب، والإعمار إلى دمار، وكراسي السلطة إلى سراب، والازدهار إلى خراب.
شكراً دكتور "وليام ميور"؛ لقد لخَّصْت أزمة أمتنا وقدمت تفسيراً علمياً "للربيع العربي" من خلال دراستك المنهجية لسلوك الحيوان!
المصدر www.edara.com
التعليقات