في دوامة الاختلافات الفكرية والفلسفية التي تعصف بالإنسان حول تحديد الصواب والخطأ، يظل ثمة معيارٌ شامخٌ كالطود، ثابتٌ كالنجم في ليل حالك، لا يختلف فيه اثنان من بني آدم على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ودياناتهم أو حتى انعدامها. إنه ذلك الإحساس الباطني الفطري الذي يُنْطِقُ الضميرَ قبل أن تُنطِقَهُ الشرائعُ، ويُشْعِرُ القلبَ بالحُسْنِ والقُبْحِ قبل أن تُعلّمه المدارس. هذا المعيار الأخلاقي البديهي – الذي هو منحة إلهية وغرس رباني في صميم كينونتنا – هو الحلقة المفقودة في كثير من الجدال العقيم.
أليس لافتاً للنظر أن الطفل الصغير يبكي إذا ظُلِم؟ وأن الإنسان البدائي في غابته يحسّ بغضاضة الكذب والغدر؟ وأن الظالمَ نفسه، في خلوةٍ مع ذاته، يعرف جيداً أنه مُقْدِمٌ على أمرٍ قبيح، فيحاول تبريره أو إخفاءه؟ لماذا يُجمع البشر، على اختلاف مشاربهم، على أن العدلَ جمالٌ والظلمَ دمامة؟ أن الأمانةَ فضيلةٌ والخيانةَ رذيلة؟ أن الرحمةَ نُبْلٌ والقسوةَ دناءة؟ لا تفسيرَ لهذا الإجماع الضمني العابر للثقافات والحضارات والأزمنة إلا وجود "فطرة" سليمة، وُضِعت في الإنسان كبوصلة أخلاقية أولى، ونور إلهي يميز به بين الحسنات والسيئات.
هنا ينكشف زيف الادعاء بأن الأخلاق هي وليدة الدين فحسب، أو حكرٌ على معتنقيه. كلا! الدين جاء مُؤكِّداً ومُفصِّلاً ومُكمِّلاً لما هو مُودعٌ في الفطرة أصلاً. لقد ولدنا جميعاً بهذا الميراث الأخلاقي المشترك، هذه الشريعة الغريزية التي تشكل القاسم الإنساني الأعظم. أما دور الدين الجوهري، فهو أمران عظيمان: إقامة الحجة على الإنسان بتبيين تفاصيل الخير والشر الذي يعرفه فطرةً ولكن قد تُعميه الشهوات أو الأهواء، ثم بيان نظام الثواب والعقاب الإلهي الذي يُحقق العدالة المطلقة ويضمن استمرارية التمسك بالقيم حتى في غياب الرقابة البشرية.
وتكمن المشكلة الأكبر في جدال من ينكرون هذه الحقيقة الفطرية، من أولئك الذين يحاولون اختزال الأخلاق في منتجٍ تطوريٍ ماديٍ صرف. يسألونك: ما معيارك الأخلاقي؟ فيُجيبون بأنه محض "تطور" خدم بقاء النوع! فهذه – بحق – من أغرب الحجج وأضعفها عقلاً ومنطقاً. كيف يمكن لنسبية التطور العمياء، القائمة على الصدفة والانتقاء والمنفعة المادية المؤقتة، أن تنتج قيماً مطلقةً ثابتةً يتفق عليها الضعيف والقوي، القديم والحديث، في كل بقاع الأرض؟ كيف تُنتج التطوراتُ الماديةُ شعوراً ذاتياً بالواجب الأخلاقي المجرد، أو الإحساسَ بالذنب لدى من ينتهك شرعاً لم يُسنَّه بشر؟ إنها لمعجزة عقلية أن يُنكر من يدّعي العقلانية وجودَ مُنزِّلٍ لهذا القانون الأخلاقي الفطري الثابت، بينما هو أولُ من يُسلِّم باستحالة خلق أي شيء – مهما بلغت بساطته – من العدم المحض!
إن نفس العقل الذي يرفض قبول ظهور أول خلية حية من لا شيء، أو انبثاق الزمان والمكان والمادة من العدم الصرف قبل الانفجار العظيم ("كيف تخضع الرب لهذا المخلوقات؟")، هو نفسه الذي يتلقى هذه الإشارات الأخلاقية الواضحة من خالقه. كيف نُصدق باستحالة الصدفة في خلق ذرةٍ من تراب، ثم نُرجِعُ هذا النظام الأخلاقي المعقد الشامل – الذي يحكم الضمائر ويبني الحضارات – إلى سلسلة من المصادفات التطورية العمياء؟ أليس في هذا تناقضٌ صارخ؟!
فطرة الله التي فطر الناس عليها.. هذا هو الأساس الراسخ. ذلك النور الذي لا ينطفئ، والمعيار الذي لا يتزعزع. الدين جاء ليُذكّر بهذا النور، ويُكمّله، ويُربطه بمصدره الأوحد وبالحساب العادل. وإنكار هذا الأصل الفطري للأخلاق ليس فقط ضرباً من العبث الفلسفي، بل هو تناقضٌ مع أبسط بديهيات العقل الذي يدّعي أتباعه احترامه.
فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.