حتّى الوحدة تغيّر جلدها، تتخلّى عن فكرة أنّها ما تحتاجه لتصبحَ ما تهرب منه، ولكن إلى أين؟!

لا طريق تقطعه لتعود من حيث جئتَ وتستريح من عبء غيابكَ عن نفسك..

لا باب تفتحه لتؤنس قلبك بصريره.

لم تعد تمتلك رفاهية الوحدة الّتي تدخلها بملء إرادتك لتضبطَ إيقاع انفعالاتك الحادّة، فتهدأ. 

لم تعد هناك مساحة مظلمة لتسقطَ فيها، ثم يمرّ وقتٌ لتنهض منها. 

تعذّبك حقيقة أنّك نجوتَ على نحوٍ مبتذلٍ. كانت نجاتكَ قشرةٌ يابسة تغطي هروبكَ منكَ، ركضك الدائم والعبثي دون أن تجدَ مكانًا لتصلَ إليه، كانت ستارًا تسدله على ذاكرتكَ الّتي تواصل تهّشّمها فوقَ عرييكَ، كانت قناعًا ترتديه لتدخلَ في تجربة الوقوف أطول قدرٍ ممكن على قدمٍ واحدةٍ بين أقدام تذرع الحاضر في كلّ اتّجاه بالسرعة الّتي يفترضها الوقت وأبعاد المكان. تراقبُ الأقدام الّتي تستر عريها بالألوان، حوارات طويلة تدور حول أصابع قدمك الواحدة وهي تنكمش مذعنةً لنقصها.

تقف أمام المرآة العموديّة، تتأمّل عطبكَ، تتحسس بعينيك الفراغ الذي يستبيح نقصكَ، تخلع ثيابكَ وتبحث عمّا يسكت جوعكَ لحقيقة أنّك نجوت، يستحوذ عليك الشعور بالذنب، تتعاظمُ في داخلك الأسئلة، تتجذّر في أعماقكَ، تتقاطعُ في صوتٍ يصرخ بكَ طوال الوقتِ: 

-لماذا نجوتَ من الموتِ ولم تنجُ من الوحدة؟! 

ترتعدُ أمام أمانكَ الزائف. وجهكَ نصف رغيفٍ وحديثٌ هامشي بين اثنين في طابورٍ طويلٍ أمام كوّة المخبز المغلقة، قلبكَ علبة حليب مستورد وحديث طويل بين ثديّ جافٍ وفم رضيع، نظراتكَ فوارغ رصاص وغيمة يكسوها الغبار، ترتعد أكثر، يدكَ سجادة أفغانية تحيط بها الموسيقى وفناجين القهوة، فيما يدك الأخرى نصف خيمةٍ متهالكة، تصرخ بك الوحدة، ولا وقت تضيّعه لتسدّ أذنيك، ترتعد دومًا.. 

وبقدمٍ واحدةٍ تمشي في أزقّة ناقصةٍ في صورةٍ مقصوصةٍ. تتذكّر جزءًا من كلّ شيء، تتذكّر أنّك كنت خائفًا ولم يعد يعنيكَ أن يبقى كلّ شيء كما كان، دائرة تضيق لتخنق دائرة، المشهد نصف ما بقي لك من كلّ شيء ولا يكفي لتسكتَ جوعكَ إلى الأمان؛ لم تعد تعنيك الحقيقةُ الكاملة! 

لا شيء يوفّره حاضرك سوى ضحكاتٍ ولعناتٍ حادةً وقصيرةٍ تشوّه هذا الركود الذي تعيشه، والأغنيات صافرة إنذار في رأسك، رأسك الذي يستريح مثل قطٍ أليفٍ بين يدي امرأة حزينة..

لا شيء يوفّره حاضرك سوى فكرة أنّ كلّ شيء قابلٌ للقسمة على اثنين: أنت وهذا العالم.

يخنقك الشعور بالذنب لأنّك نجوت من الإجابة وتركت السؤال عالقًا في المرآة: 

-من أنتَ؟ جزءٌ  ناقصٌ من صورة أم صورةٌ بأجزاء ناقصة؟

 وبقدمٍ واحدةٍ تتأرجح أمام المرآة ونفسكَ،

 تتأرجح طويلًا

تتأرجح إلى الأبد

 بين وحدةٍ تهرب منها،

ووحدةٍ تخلّت عنك..