الإيمان بوجود الله تعالى ليس مجرد شعورا عاطفيا أو تقليدا موروثا فحسب، بل هو استنتاج عقلي عميق يتوافق مع الفطرة السليمة وأدوات المنطق السليم. وإليك بعض الأسباب التي تجعل هذا الإيمان في غاية المنطقية والعقلانية.
1. سبب الوجود ونظام الكون:
ينطلق التفكير المنطقي من ملاحظة الكون الفسيح وما فيه من تعقيد مذهل ونظام دقيق محكم (في الفيزياء، البيولوجيا، الفلك... إلخ). السؤال البديهي الذي يفرض نفسه: كيف نشأ هذا الوجود المنتظم من العدم المطلق؟ فكرة أن هذا الكون الهائل، بكل قوانينه الدقيقة، وجد صدفة أو بدون علة أولى علاقة وفريدة. هي فكرة تتعارض مع أبسط مبادئ السببية والمنطق التي نعتمد عليها في فهم كل شيء حولنا وجود خالق عظيم، حكيم، قادر، هو التفسير الأكثر منطقية واقتصادا (يعني أقل افتراضا تعسفيا) لوجود هذا الكون ونظامه.
2. الفطرة والضمير:
يشترك البشر عبر الثقافات والتاريخ في الإحساس بوجود قوة أعلى، وفي الشعور بالضمير الأخلاقي. هذا الإحساس المتجذر يشير إلى مصدر خارجي لهذه المشاعر والمعايير الأخلاقية الموضوعة. (مثل أن الظلم قبيح والعدل جميل بذاته). ووجود الله هو التفسير الأكثر انسجاما مع هذه الفطرة البشرية الكونية.
3. استحالة التسلسل اللانهائي:
إذا افترضنا أن كل شيء في الوجود يحتاج إلى سبب أو خالق، فإن التسلسل إلى ما لا نهاية (أي سلسلة لا أول لها من الأسباب) هو أمر مستحيل عقلا لا بد من وجود "سبب أول" غير مسبب، "واجب الوجود" بذاته، لا يعتمد على شيء قبله وهو سبب كل ما عداه. هذا الوجود الأول هو الله.
النقطة المحورية: استحالة تطبيق "كل شيء له بداية" على الله
وهنا تأتي النقطة المهمة التي أشرت إليها، والتي تعد حجر الزاوية في الدفاع العقلاني عن فكرة الألوهية:
• حجة الخصم:
قد يقول البعض: "إذا كنتم تقولون أن كل شيء له بداية ويحتاج إلى خالق، فمن خلق الله؟ أو كيف يمكن أن يكون الله أزليا؟"
• الرد المنطقي:
هذا السؤال يقوم على مغالطة في التصنيف حجة "كل شيء له بداية" تنطبق فقط على الأشياء داخل نطاق الزمان والمكان والمادة، أي على المخلوقات والمحدثات. هذه الأشياء لها بداية لأنها وجدت في لحظة زمنية معينة.
• مفارقة التطبيق:
الله - حسب التعريف في الأديان الإبراهيمية - ليس محدثا أو مخلوقا، بل هو خالق الزمان والمكان والمادة نفسها. هو الذي أوجدها من العدم.
• النتيجة المنطقية:
بما أن الله هو خالق الزمان، فهو سابق على الزمان، خالق الزمان، فلا يخضع لقوانينه (كالبداية والنهاية). وبما أنه خالق المكان، فهو لا يحده مكان، وبما أنه خالق المادة، فهو ليس مادة ولا خاضعا لقوانينها.
• فكرة الأزلية منطقية:
بالتالي، فكرة أن الله "أزلي" (ليس له بداية) و"أبدي" (ليس له نهاية) ليست فقط فكرة ممكنة، بل هي الضرورة المنطقية الوحيدة. تطبيق مفهوم "البداية" - الذي هو مفهوم زمني - على من أوجد الزمان نفسه، هو تطبيق خاطئ يشبه سؤال "كم يبلغ وزن اللون الأحمر؟" إنه خلط بين المستويات.
الأزلية (عدم البداية الزمنية) هي الصفة المنطقية الوحيدة التي تليق بالعلة الأولى غير المعلولة، خالق كل شيء.
---
الخلاصة:
الإيمان بالله ليس قفزة في الظلام، بل هو استجابة عقلانية لأسئلة الوجود الكبرى: من أين جئنا؟ لماذا يوجد شيء بدلا من لا شيء؟ من أين يأتي النظام والتعقيد المذهل؟ من أين تأتي المعاني الأخلاقية؟ وجود خالق واحد، عظيم، حكيم، أزلي، خالق للزمان والمكان، هو التفسير الأكثر اكتمالا ومنطقية وعقلانية لهذه الأسئلة.
ومحاولة حصره ضمن قوانين مخلوقاته (كالزمان) هي محاولة غير منطقية في جوهرها. الإيمان، بهذا الفهم، هو ذروة العقلانية.
---
**ملاحظة:** هذه الرسالة تقدم حججا عقلانية شائعة في الفلسفة والدين (خاصة في مدرسة اللاهوت الطبيعي). وهي موجهة لمن يبحث عن منطقية الإيمان. طبيعة الله ذاتها (كما يفهمها المؤمن) تتجاوز الإدراك البشري الكامل، لكن العقل البشري يمكنه الوصول إلى استنتاجات أساسية عن ضرورة وجوده وصفاته الجوهرية مثل الأزلية.
التعليقات