هنالك صورة تقفز إلى الخيال عند تناول هذا الموضوع هي صورة هذه الأرملة النبيلة التي جاءوا إليها بعد أن دخل الموت إلى دارها وقالوا لها : أعطنا جثمان زوجك .. أعطنا جسده الميت نأخذه إلى البلاد التي جاء منها . ولا أظنه بدا مفهوماً للأرملة أن يؤخذ رفيق حياتها ويعاد ميتاً إلى البلاد التي تركها حياً وأن يؤخذ من البلاد التي وهبته كل شئ إلى البلاد التي لم تعطه أي شئ .. لا دار ولا زوجه ولا عمل ولا أبناء ولا بنات .. لا شئ سوى اعتراف بالموهبة والتفوق هو الآخر وقف على جماعة القارئين غير المسيسين . كيف يؤخذ زوجها الميت إلى بلد ناء بعيد ليستلقي تحت وقد الصحراء حيث لا يزور ولا يزار .
إنها أرملة الطيب صالح (*) التي لابد أنها حلمت بضجعة الموت إلى جواره في مدفن أسرى ولا شك أنها نذرت أن تزور قبره كل أحد لتتعاهد نجيله أو لتضع عليه باقة من الورد ، ولكن رجالاً من السودان جاءوا وقالوا لها إن سلام روحه لا يكون إلا إذا تركتهم يحملونه على متن الطائرة مسيرة سبع ساعات ليتحلق حول نعشه بضعة آلاف من المشيعين الدامعين يصلون عليه صلاة الموت ويعدون له لحدا في تراب أمدرمان الأحمر وبعد أن يهيلوا التراب على مدفنه سيذهبون في حال سبيلهم ويتركونه وحيداً في مدينة الأموات .
كان ذلك قراراً شجاعاً لسيدة شجاعة فبعد أن تخرج الروح من الجسد لا يكون للمرء من قيمة سوى قيمته المعنوية وللطيب صالح قيمة عليا في بلاد العرب وخاصة في بلد كالسودان ليس له ما يفاخر به العالم سوى جدث ذلك العظيم الذي تحرك في الدنيا وانفعل بأطراف من أحداثها فاعترفت به الدنيا واحداً من رجالاتها الكبار .
كثيرون تصرفوا بطريقة الطيب صالح بينهم عرب وأفارقة ولاتين قادتهم تصاريف الحياة إلى الجنة الأوربية (إن لم تكن الجحيم الأوروبي) ووسوست لهم أبالسة وأفعوانات لتخرجهم من ذلك الجحيم/النعيم ولكنهم أخذوا العظة مما جرى لأبيهم الأكبر وهو يخرج من الفردوس بسبب الخطيئة الأولى التي ارتكبها تحت وسواس الشيطان فلم يتركوا الشياطين تأخذهم إلى حمأة الخطيئة الثانية . ولا يستطيع إلا مكابر أن يرى في بقائهم بالجنة الأوربية ما يضير . وذلك أنهم دخلوها فرادى بقميص على اللحم ومتاع خفيف ولكنهم امتلأوا مع الزمن بالشهادات والكتب والأثاث والتحفيات والزوجات والبنات والأولاد والأحفاد والذكريات العذبة والمرة وباختصار غدا الجزء الأكبر من حياتهم هناك وبقي جزء آخر صغير مدفوناً في صحراء الذكرى متعرضاً كل يوم للزيادة أو النقصان حسب املاءات الذاكرة وهوائيتها .
وهنالك إنشائيات فظيعة تحيط بفكرة عودة المغترب إلى بلاده منها ((أن يشارك الناس عذابهم وأحزانهم)) ومنها ((أن يشارك في النضال من أجل التغيير)) أو ((يقود ذلك النضال)) وذلك وأيسر منه غير متاح للعائد فالنضال محتكر للذين ظلوا قابضين على الجمر كما يسمون أنفسهم ، وتذوق معاناة الناس ليس متاحاً له إلا على سبيل الفرجة أو الحكاية لأننا جميعاً نتظاهر للمغترب بالرفاهية ويسر المعاش فيظل يتنقل من مأدبة إلى مأدبة إلى أن يحين موعد سفره فلا يرى ((معاناة الناس)) ولا يجربها في لحمه الحي . وكل ما يعود به إلى مهجره أقاصيص ونوادر نرويها له نحن المقيمون القابضون بدورنا على الجمر صدقاً أو توهماً . ولا ينبغي أن تغيب عن فطنتنا المهانة الوجودية التي يمكن أن تلحق بكاتب رفيع الثقافة يعود ليحيا في كنف دولة دكتاتورية معادية لفكره وكل ما يمثله في الدنيا وتنذره بمتواليات من المهانات تبدأ بنزع مقالاته من الصحف والمجلات وتنتهي بالتعريض أو الهجوم الصريح من قبل أبواق النظام أو مثقفيه إلى جانب المعاكسات الإدارية وغير الإدارية من أغمار أغرار مما لا يصبر عليه إنسان عاش إنسانيته الكاملة في بلاد ((الاستكبار)) وفقد أهليته للعيش في الاغلال .
عاش الطيب صالح كل مراحل الحنين وعرف مذاقه العلقمي بل عاش أيضاً مرحلة ما وراء الحنين حيث تأخذ مفردات الوطن بالتفلت والذهاب إذ تموت الأشجار وتبور الحقول وتتكئ دومة ود حامد على جنبها لاستقبال الموت ويتسلل رفاق الطفولة ذاهبين إلى مصائرهم المختلفة من مرض أو خرف أو موت أو اغتراب وعند ذلك تتحول الذكرى إلى وجع شديد الإيلام إلا أنه على ألمه نوع من الوجع المستطاب لأنه يحتوي لذة الاسترجاع واستملاك أشياء وأشخاص ذهبوا من الدنيا ولكن الذاكرة تتحدى الموت وتعيدهم إلى الحياة . وتحت تأثير تلك اللذات الممكنة والمستحيلة كتب الطيب روايته الخالدة (موسم الهجرة إلى الشمال) التي أعاد فيها ترتيب العالم وفق هواه وعلى نحو ما يوائم تصورة لفكرة الوطن وفكرة الموت والحياة . وعن طريق بطلها مصطفى سعيد والناس الذين يتذكرونه والناس الذين يريدون أن ينسوه وضع الطيب صورة شديدة الوضوح لفكرة الوطن في عالم يتقارب ويتداخل باستمرار .
لم يعش مصطفى سعيد في وطنه الأول (السودان) لطويل زمان فقد أخذوه إلى مصر في أول عهد المراهقة ليدرس فيها المرحلة الثانوية وكان في الثانية عشرة من عمره على نحو ما حدثنا في كتاب ذكرياته :
(أذكر أنني جلست في القطار قبالة رجل في مسوح وعلى رقبته صليب كبير أصفر . ابتسم الرجل في وجهي وتحدث معي باللغة الانجليزية فأجبته . أذكر تماماً أن الدهشة بدت على وجهه واتسعت حدقتا عينيه أول ما سمع صوتي . دقق النظر في وجهي وقال لي (كم سنك؟ فقلت له خمسة عشر . كنت في الواقع في الثانية عشرة لكنني خفت أن يستخف بي) .
ووصل مصطفى إلى لندن بجواز سفر مستخرج في القاهرة عام 1916 وبحساب أنه من مواليد أغسطس 1898 فإن عمره آنئذ لم يبلغ الثامنة عشر وذلك ما يسمح لنا بالقول أنه بالأساس مخلوق الغرب وليس مخلوقنا وأنه تعلم من الغرب كل ما تعلم من فضائل ورذائل هذه الدنيا ولا سيما رذائل الكذب والتفاخر ومطاوعة الهوى والشهوات والتوسل إليها بكل أنواع الأكاذيب والاحتيال ولا شك أنه تعلم من تربيته الغربية كل شئ حتى دعواه في مناهضة الاستعمار ومقاومته وادعاءه أنه ينتقم لنا بنسائياته الفاجرة القائمة على الخداع والعاجزة عن إدارة حوار نزيه مع النساء الغربيات اللائي قال عنهن شاعر أفريقي : (لولاهن لحكمت على الغرب كله بالإعدام) انه مادة خام من الجنوب قام الغرب بتشكيلها وتصنيعها تماماً كما كان يفعل بصادراتنا الأخرى من قطن وكاكاو ومطاط فيبيعها لنا وللآخرين على هيئة منسوجات ومشروبات ودواليب سيارات . وعن طريق حياته المريرة الخالية من حس الفكاهة أثبت مصطفى سعيد فشل الغرب في تطويع أبناء المستعمرات وتشكيلهم على النحو الذي يختار .
يروي مصطفى سعيد أنه :
(جاء رجل على فرس ، في زي رسمي ووقف فوقنا فجرى الصبية ، وبقيت أنظر إلى الفرس والرجل فوقه . سألني عن اسمي فأخبرته قال لي كم عمرك فقلت لا أدري . قال لي : هل تحب المدرسة ؟ قلت له : ما هي المدرسة ؟ فقال لي : بناء جميل من الحجر وسط حديقة كبيرة على شاطئ النيل . يدق الجرس وتدخل الفصل مع التلاميذ لتتعلم القراءة والكتابة والحساب .
قلت للرجل : هل البس عمامة كهذه ؟ وأشرت إلى شئ كالقبة فوق رأسه فضحك الرجل وقال لي : هذه ليست عمامة . هذه برنيطة .. قبعة. وترجل من على فرسه ووضعها فوق رأسي فغاب وجهي كله فيها . ثم قال الرجل : (حين تكبر وتتخرج من المدرسة وتصير موظفا تلبس قبعة كهذه . قلت للرجل إذن اذهب للمدرسة) .
تلك هي اللحظة الحاسمة في حياة الصبي مصطفى وهي بداية خروجه أو إخراجه من الحضارة التي ولد في أحضانها ليتعلق ببناء من الحجر وحديقة على النيل وقبعة على الرأس ظنها أول أمره نوعا من العمائم . وفي سبيل تلك العمامة اغترب مصطفى طيلة طفولته في الكتب متباعدا عن أقرانه مقهوراً تحت وطأة الإحساس بالاختلاف :
( كنت أحس بأنني مختلف . أقصد أنني لست كبقية الأطفال في سني لا أتأثر بشئ ، لا أبكي إذا ضُربت ، لا أفرح إذا أثنى على المدرس في الفصل ، لا أتألم لما يتألم له الباقون . كنت مثل شئ مكور من المطاط ، تلقيه في الماء فلا يبتل ، ترميه على الأرض فيقفز ) .
وبالفعل قفز ذلك الشئ المطاطي فوق المراحل الدراسية (تعلمت الكتابة في اسبوعين) و (طويت المرحلة الأولى في عامين) ومنها إلى المرحلة الوسطى (وبعد ثلاثة أعوام ، قال لي ناظر المدرسة وكان انكليزياً : هذه البلد لا تتسع لذهنك ، فسافر . اذهب إلى مصر أو لبنان أو انكلترا . ليس عندنا شئ نعطيك إياه بعد الآن ) ومن جديد قفز ذلك الشئ المطاطي ولكنه قفز هذه المرة فوق السودان كله ليستقر هنيهة قصيرة في مصر ومنها يثب وثبا إلى بريطانيا حيث يتحول إلى تحفة أبنوسية في محافل أصدقائه ومعجبيه من البيض .
وهنالك مفارقة كبرى بين بطل القصة وبين راويها الذي عاش طفولته وشبابه في الوطن فاكتسب مناعة جعلته يذهب إلى لندن هو الآخر ويبقى فيها لسبع سنوات عاد في نهايتها بدرجة الدكتوراه عن شاعر بريطاني مغمور على نحو ما يفعل الكثيرون منا ولكنه عاد كما ذهب عاشقاً لوطنه راضياً بسيرة الناس فيه ومطلعاً على عناصر قوتهم وفضلهم وجمالهم على عكس بطله الذي خرج من بلاده طفلاً قبل أن يتلقى مصل التحصين فتاه في الدنيا وارتكب جرائم جنائية وأخلاقية أعادته إلى أصوله متنكراً في ثياب فلاح ومتخلياً عن كل ما تعلم من الغربيين.
على عكس هذا الفتى اختار مصطفى أن يبقى في لندن إلى ما لا نهاية ويمارس فيها أبواباً من الاحتيال على نسائها ليكسب ودهن ومن بعد ذلك ليدمر حياتهن . وهنالك لا يبدو بهيئة صاحب نسائيات معشوق ومطلوب وإنما بصفة كذاب يروي أقاصيص ساذجة وغير صادقة عن غرائبيات بلاده وحياته متوسلاً بالند والبخور والتحفيات المستقدمة ليثير خيال نساء بريئات بعضهن ساذجات أو قليلات الحظ من التعليم .
لقد كان بائعاً لدهن الثعابين وحينما يتعلق الأمر بأعمال القنص والصيد والطراد لم يكن مصطفى يميز بين ما هو عربي وما هو إفريقي ويتناول من حقائب التراث كل ما يساعده على الصعود إلى فراش إمراة . فهو حينا فارس عربي وحينا أمير إفريقي وهو من بلاد تعج بالوحوش والتماسيح ثم هو من قلب الصحراء وقوافلها المتعبة . ومما يرويه المؤلف وما يسكت عنه يأتينا الإحساس بأنه لم يكن شخصية فاتنة تجذب إليها قلوب النساء وانما كان محتالا يكمل نقصه الشخصي بالتمويه والأكاذيب وأنه مستعد للزحف على بطنه ليصل إلى سرير المرأة ويظل ذلك دأبه إلى أن يلتقي بملاك موته جين مورس التي تواجهة منذ اللقاء الأول بتهاويل سأمها الوجودي وقدرتها على التحدي والتجاهل والاستفزاز وهي صورة للموت تذكرنا بصورة أخرى رسمها الطيب صالح في قصة قصيرة مؤثرة باسم (الرجل القبرصي) .
كانت كالشبح ومثل غضب الله . لا تقول شيئاً بلسانها ولكن تصرفاتها تبعث الرعب أو الغضب في القلوب . فهي مثل تلك الأخرى في أبيات الشعر القومي الذي استشهد بها المؤلف في موقع آخر من الرواية :
وا وحيحي ووا وجع قلبي
من صيدة القنيص الـ فترت كلبي
يشكو من وجع الروح وتوالي الآهات الحارة وسببها هذه الغزالة الجافلة التي تعب السلوقي من طرادها وأصابه الفتور والكلال .
(كنت في الخامسة والعشرين حين لقيتها ... فتحت الباب ، تريثت ، وبدت لعيني كأنها سراب لمع في صحراء . وكانت تنظر إلىَّ وهي قادمة . وقفت قبالتي ونظرت إلىَّ بصلف وبرود ... وشئ آخر . وفتحت فمي لأتكلم لكنها ذهبت) .
ما هو ذلك الشئ الآخر ؟ لا يقول لنا المؤلف ويتخفى عن تساؤلاتنا تحت دثار من الشعر والتهويمات من نوع :
(لبثت أطاردها ثلاثة أعوام ، كل يوم يزداد وتر القوس توتراً ، قربي مملوءة هواء ، وقوافلي ظمأى ، والسراب يلمع أمامي في متاهة الشوق ، وقد تحدد مرمى السهم ، ولا مفر من وقوع المأساة . وذات يوم قالت لي : أنت ثور همجي لا يكل من الطراد . إنني تعبت من مطاردتك لي ، ومن جريي أمامك . تزوجني) .
لا مفر من وقوع المأساة ؟
بهذه العبارة يكشف المؤلف قليلاً عن بعض نواياه فليست المأساة هنا سوى الزواج نفسه – أن يقترن إنسان من دم ولحم بنذير الموت والفناء . أما مأساة القتل فلا زلنا بعيدين عنها لأنها لا تكون إلا بعد إتمام الزواج ثم فشله ثم تلبية نداء الموت من الطرفين ولكن المؤلف يقفز لنا هذه القفزة الصغيرة فوق أحداث الرواية لينبهنا إلى الطبيعة الشيطانية لشخصية جين مورس وكون الاقتراب منها هو الاقتراب من الهلاك :
(وتزوجتها........ ) وإذا صبرنا قليلاً على تمنع المؤلف فإننا نصل قريباً من نهاية الرواية إلى هذا البوح على لسان مصطفى سعيد :
(وقد كان حتماً أن يصطدم طالعي بطالعها وأن أقضي في السجن أعواما وأضرب في الأرض أعواما ، أطارد خيالها ويطاردني .
وحين يستجيب مصطفى لدعوتها ويغرس الخنجر في نحرها يكون قد انتحر هو الآخر ويكون قد وضع خاتم النهاية على حياة البريطاني الأسود الذي هو مصطفى سعيد اللندني لننتقل معه إلى مصطفى الآخر الذي يتخفى عن عيون قرويين سودانيين ويعيش بينهم في ثياب فلاح . وليس صعباً أن نرى في جين مورس وشخصيتها العدمية رمزاً لحضارة الغرب وعدوانيتها تجاه السمات الكبرى لتاريخنا . وهنالك مشهد في هذه الرواية العظيمة يكاد يطابق ما نذهب إليه
أهي صدفة أم تدبير من المؤلف أن تكون تلك المقتنيات المقايض عليها من مفردات الحضارة الشرقية ؟ وهل هي صدفة أن تخلو مكتبة مصطفى سعيد في قرية ود حامد من أي كتاب عربي ؟ إلى أين أراد الطيب صالح أن يأخذنا مع هذه المرأة الشريرة ؟ هل تراه أرادها رمزاً على عدوانية الغرب الامبريالي وفتكه بأقدس أقداس الشرق المستسلم المهزوم ؟ هل أرادها رمزاً على هذه المدارس الحديثة التي أقامها الغرب في بلادنا لتسرقنا من أنفسنا وتعذبنا بوقائع تخلفنا وبوارنا التاريخي ؟ وهي تلك المؤسسات التي أخرجت مصطفى سعيد من وطنه في المقام الأول باحثاً عما أسماه الطيب صالح بالسراب .
تريد رواية موسم الهجرة أن تقول – ضمن أشياء كثيرة أخرى – أن الوطن يجري مع الدماء فلا يمكنك أن تأخذ إنساناً من أعماق الثقافة التي ولد فيها وتقوم بتنشئته على ثقافة أخرى حتى لو كان مراهقاً في مقتبل العمر إذ أنك ستجعله يغترب عن أصوله ويبدو غريباً أو حتى غرائبياً في لباسه الحضاري الجديد . ومعكوس هذه المقولة صحيح فليس ممكناً لمصطفى سعيد أن يخلع الزي الأوربي ويتنكر في زي فلاح سوداني ويعيش حياة سعيدة في عالمه الجديد . ولعل الدليل على ذلك هو المصير المأساوي الذي آلت إليه أرملته وطفلاه اليتيمان فما يكاد يموت / يذهب/ يختفي في مصيره المأساوي حتى يبرز الشيخ الصعلوك ود الريس فيتآمر على الأرملة ويتصل بأولياء أمرها ليوقع معهم وثيقة الزواج القسري الظالم التي تبرر له اغتصابها والتطفل على حزنها على زوجها الراحل وتفرغها لتربية ولديها اليتيمين . وحين ترفض الأرملة ذلك القهر وتقاومة حتى الموت لا يتعاطف معها أحد من أهل القرية ويقوم كبار البلد وأفراد عائلتها بالتخلي عنها وإمطارها باللعنات .
تقول بنت مجذوب في رواية خبر موتها وقتلها زوجها الشيخ الفاني المجنون بالنساء :
(بعض النساء بدأن مأتما ولكن محجوب بارك الله فيه جاء ونهرهن وقال : التي تفتح فمها سأقطع رقبتها . أي مأتم يقام في هذه الحالة ؟ ) .
وهكذا تموت أرملة مصطفى سعيد (الفلاح الطيب المهذب) دون أن يقام لها مأتم أو تذرف عليها الدموع . وتصل مأساة الأرملة إلى قمتها على لسان محجوب الذي يقص على الراوي مطلب الأرملة في أن يتزوجها أو بالأحرى يكتب معها عقد الزواج ليخلصها من ملاحقة ود الريس المستميتة :
(جاءتني في البيت مع شروق الشمس . قالت تخلصها من ود الريس وزحمة الخطاب . فقط تعقد عليها . لا تريد منك شيئاً . قالت يتركني مع ولدي ، لا أريد منه قليلاً ولا كثيراً) .
قوبلت هذه الاستغاثة بعدم اهتمام من الجميع وبعد مقتلها المروع وجد محجوب الجرأة أو الوقاحة ليقول عنها كلاماً قاسياً أخرج الراوي من معهود أطواره وجعله يشتبك معه في صراع بالأيدي لعله واقعة العنف الوحيدة في هذه القرية الوادعة التي يعرضها لنا المؤلف .
والمعاملة القاسية التي يختص بها مجتمع القرية أرملة مصطفى هي بصورة غير مباشرة تعبير عن عدم اكتراث القرويين لمصطفى نفسه وتنكرهم لما كان بينه وبينهم من المعاشرة والمجاملات وعدم رعايتهم لحقوقه في زوجه وولديه . ولعل السبب في ذلك كونه غريباً عن القرية من الناحية العشائرية رغم محاولاته الصادقة للانتماء . وبذلك تكتمل حلقات المأساة فهو غريب في لندن وغريب في ود حامد : هنالك يلقونه في السجن مع المجرمين وهنا يلقونه خارج الذاكرة ويعتدون من وراء ظهره على كل ما خلف من علاقات بشرية : أرملة ويتيمان .
كان مصطفى غريباً في لندن بصورة لا تخطئها العين فقد كان يشي بذلك سمته وإهابه الأفريقي وهي نفس الغربة التي يتعرض لها غيره من أبناء الأقوام الأخرى في العالم الثالث من عرب وآسيويين يشي بهم إهاب ناطق (أو زاعق) بكونهم متوسطيين أو خليجين أو من الأقوام الصفراء . وفي قرية في شمال السودان عند منحنى النيل لم يكن حظه أفضل كثيراً فقد كان غريبا بالمعني العشائري في قرية ينتمي أهلها إلى بعضهم البعض بقرابات مؤكدة ليس فيها موقع لغريب مثله رغم إصهاره إليهم وعمله معهم فيما يفيد القرية ويرفع من شأنها ويخفف وطأة الحياة على سكانها . وفي مواضع عديدة من الرواية يشار إليه بوصف (الغريب) من الراوي أو من جده وهو يجيبه عن استفساراته الأولى عن شخص مصطفى سعيد ..
يقول الراوي في الصفحات الأولى للرواية :
(فجأة تذكرت وجها رأيته بين المستقبلين لم أعرفه . سألتهم عنه ، ووصفته لهم . رجل ربعة ، في نحو الخمسين أو يزيد قليلاً ، شعر رأسه كثيف مبيض ليست له لحية وشاربه أصغر قليلاً من شوارب الرجال في البلد . رجل وسيم .
وقال أبي : هذا مصطفى .
مصطفى من ؟ هل هو أحد المغتربين من أبناء البلد عاد ؟ وقال أبي أن مصطفى ليس من أهل البلد ، لكنه غريب جاء منذ خمسة أعوام ، اشترى مزرعة وبنى بيتاً وتزوج بنت محمود .. رجل في حاله ، لا يعلمون عنه الكثير ) .
وفي الحديث عن زواج مصطفى لحسنة بنت محمود لا نعدم من يستنكر ذلك الزواج من القرويين إذ يقول أحدهم إن القوم الذين اصهر إليهم مصطفى سعيد يزوجون بناتهم لمن هب ودب دون كثير تدقيق . وهو وضع من الممكن أن يحدث في أي قرية عربية أو أفريقية لشخص من أهل البلاد قدم على القرية من ناحية مختلفة من نواحي نفس الوطن فأصبح أحد الغرباء بمعنى من المعاني . وهكذا صار مصطفى ضحية لغربة مزدوجة – غربة خارج الوطن وغربة داخله .
تلك هي قصة مصطفى سعيد مع فكرة الوطن : خلعوه من وطنه صغيراً ليتبنوه ولكنه خلع نفسه عن وطنه بالتبني حين بلغ رشده وداهمته فكرة الانتحار تحت مسمى جين مورس ليأتي إلى مكانة من مكانات وطنه الأول يعاني فيها نوعاً جديداً من الغربة . وهكذا يعيش أكثر من غربة : غربة خارج الوطن وغربة أخرى داخل الوطن . وعبر تلك الأحداث يقول لنا الطيب صالح أن الوطن ليس رداء نلبسه ونخلعه متى نشاء كما أنه ليس زياً تنكرياً نتزيا به لأهوائنا الخاصة ووفق الاحتياج فهنالك ثمن محسوب وضريبة واجبة السداد عن كل نقلة من نقلتي الانتماء والخروج . وفي ذلك الإطار مضت حياة مصطفى سعيد في دوراتها القاسية وهو ينبذ أصوله العربية / الأفريقية ليصير غريبا ثم وهو ينبذ تحولاته الغربية ويعود فلاحا من السودان وفي الحالتين يلاحقه الفشل كقدر مأساوي ففي النقلة الأولى يقتل نفسا ويؤخذ إلى السجن وفي الثانية ينتحر أو يموت غرقا ويترك عائلته للضياع على أيدي أصهار ومعارف لا يكنون له القدر الواجب من الاحترام .
رغم أن رواية موسم الهجرة إلى الشمال تتحدث عن السودان بالاسم وتدور أحداثها فيه إلا أنها تتحدث بصورة غير مباشرة عن وطن أكبر وأوسع من السودان هو العالم العربي / العالم الثالث / العالم اللاغربي / العالم المقهور الذي تجعله الرواية موضع مضاهاة ومقابلة مع عالم الغرب . ولعل ذلك أحد الأسباب التي جعلت منها رواية عالمية تقرأ بكل اللغات ويجري التفاعل معها عبر اللغات والبيئات واختلاف الأسماء والمسميات لكونها تصويراً للعلاقة المعقدة بين القاهر والمقهور وبين المتمدنين وضحاياهم وهي التكملة النقيض للمعاني السلبية التي اكتفى بها كونراد في روايته عن أفريقيا – معاني الدفاع عن مظلومين لا يملكون لنفسهم شيئاً بدلا من تحريكهم ليدافعوا عن أنفسهم بأنفسهم .
ولا نريد الغض من شأن جوزيف كونراد (**) ودوره الإنساني في تحرير إفريقيا والدفاع عن إنسانها على نحو ما فعل شنوا أشيبي واضرابه من العرب والأفارقة الذين ينكرون على التقدميين الغربيين أدوارهم في التاريخ البشري . فواقع الأمر أن الحالة البشرية في الكونغو تحت الحكم الشخصي لملك البلجيك كانت مما يدمي القلب وكانت شيئا تتضاءل أمامه كل فظاعات الاستعمار في بقية العالم وكان كونراد ضمن ثلة قليلة من رجال القلم والسياسة الذين لم تبهرهم ادعاءات ليوبولد الثالث وحملاته الدعائية الرامية لتزيين حكمه لبلاد الكونغو وإظهاره بمظهر الإحسان المسيحي نحو خطاة بدائيين فواقع الحال أنه كان من المؤمنين بأن القوى الصغرى في أوربا لا سبيل أمامها للثروة والازدهار إلا باستعمار الدول المتخلفة وجني الأرباح من استعمارها .
وكان دائم الاستشهاد بهولندا التي حكمت إمبراطورية آسيوية مترامية الأطراف تفوقها في المساحة والقوى البشرية عشرات الأضعاف . ومع ذلك لم يطلب ليوبولد من مؤتمر برلين (لاقتسام إفريقيا) أن يعطي الكونغو لبلاده وإنما لشخصه وحين استجاب المؤتمرون لمطلبه تناسى الملك البلجيكي كل دعاواه عن المهمة الحضارية والإحسان المسيحي وأطلق أيدي أعوانه في الكونغو قتلاً وبتراً للأعضاء وسخرة في اقتصاد بدائي يقوم على جمع الخامات الطبيعية – وعلى رأسها المطاط الذي كان مطلوباً من الوطنيين جمعه عن طريق السخرة . وكان عليهم أن يلطخوا أنفسهم بخامته اللاصقة ليجري انتزاعها من أجسادهم بطريقة مؤلمة يفقدون معها ما على أجسامهم ورءوسهم من شعر .
***
في بداية أمر هذه الرواية العظيمة راح أناس لا يعرفون الطيب صالح معرفة شخصية يتحدثون عن التماثل بينه ومصطفى سعيد باعتبار أنها مستمدة من التجارب الشخصية لمؤلفها . وقد صبر الطيب صالح على ذلك صبراً جميلاً حتى تعرف الناس على شخصه النبيل ولمسوا الفروق الكبيرة بينه وبين الصورة التي رسمها لمخلوق روايته فقد كان الطيب أقرب ما يكون إلى شخصية القديس / الولي / الزاهد وكان عفيف اللسان شديد التهذيب بينما كان مصطفى هوائيا سئ العشرة مع النساء لا يتورع من اشتهاء امرأة في سن والدته مثل السيدة روبنسون التي أحسنت إليه واختصته بعطفها الرحيم ولا من تدمير حياة نساء طيبات ضعيفات وقعن تحت سحره وأكاذيبه . وعلى عكسه تميز الطيب صالح بالعفة والطهارة وحسن الأدب والميول الصوفية العميقة . وفي إجابة له عن سؤال أحد السائلين قال الطيب : ( لست مصطفى سعيد . أنا أقرب لأن أكون الزين ) بطل روايته الشهيرة عرس الزين والذي صوره الطيب بصورة رجل صالح في ثياب درويش يظهر للعالم وجهه الطفولي الساذج ولكنه ملئ بالحكمة والبركات . وذلك حقا هو الطيب صالح فقد كان رحمه الله درويشاً أو تربالا (فلاحاً بسيطاً) كما كان يقول عن نفسه ولم تكن حكمته خافية على أحد . ويتحدث العديد من مريديه عن البركة التي تحل حيث حل وترافقه حيث ارتحل .
جرحنا في الطيب صالح لا زال طريا ولا سبيل لفصل الذاتي عن الموضوعي في الحديث عنه ولذلك ربما كان من حقي أن ألوح له – مرة أخرى (***) – بمنديل الوداع :
وداعاً الطيب صالح
وداعاً أيها الأمير
وداعاً أيها الأرباب الجليل
مكانك محفوظ في قلوبنا
وفي تاريخ بلادنا
وفي أسني وأعلى قمة في ثقافة بلادنا