عندما يتقاطع الخير والشر، الحزم واللين، تُطرح علينا أسئلة وجودية عميقة: هل الطيبة، وحدها، كفيلة ببناء عالم عادل؟ ومتى تتحول الطيبة من خلق نبيل إلى عبء ثقيل على كاهل صاحبها؟

كثيرون يختارون الطيبة لأنها كل ما عرفوه، لا لأنهم اختاروا ذلك بعد تجربة القوة. وهنا مكمن الإشكال. فاختيار الطيبة في موضع الضعف لا يُعد دومًا فضيلة، بل قد يكون قناعًا للعجز أو للهروب من المواجهة. لكن، ماذا لو تبدّلت الأحوال وأصبح الضعيف قويًا؟ هل سيظل متمسكًا بطيبته أم أن بطشه سيطفو على السطح؟ حينها فقط، نُدرك أن الطيبة التي لا تثبت في موضع القوة ليست نبلًا، بل انقيادًا مؤقتًا للظروف.

النموذج النبوي: الطيبة حين تكون حُكمًا، لا ضعفًا

من أطيب خلق الله، النبي محمد ﷺ، ضرب أعظم مثال للرحمة في قمة النصر حين دخل مكة فاتحًا، مزودًا بجيش عظيم، فوقف أمام من آذوه وطردوه وظلموه، ثم قال كلمته الخالدة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". لكنه لم يكن ليمنح هذه الرحمة لمن يهدد رسالة التوحيد ذاتها.

حين أُرسل رسول برسالة إلى قوم، فقام أحدهم بقتل رسول رسول الله ﷺ، لم يكن هناك تسامح، بل قرار واضح بالحزم والرد القوي، لأن التهاون حينها كان سيُعرض كل دعوة الحق للفناء. لم يكن ذلك قسوة، بل حكمة تضع المصلحة العامة فوق العاطفة.

النبي ﷺ لم يكن طيبًا بمعنى "المسالمة العمياء"، بل كان حازمًا حين تستدعي المواقف الحزم، وعفوًا حين يكون العفو إصلاحًا. سامح اليهود في خيانتهم الأولى، لكنه لم يتسامح في خيانتهم الثانية، لأن استمرار التسامح في بعض المواقف خطر على أمة بأكملها.

في الحاضر: الطيبة ليست حلاً دائمًا

فلنخرج من القصص التاريخية إلى واقعنا اليوم، حيث يُطلب من الفرد أن يسامح في كل موقف، حتى وإن انتهكت حرماته. ماذا لو خانت شريكته خيانته الثانية، وفي حرمة بيته؟ هل يُطالب حينها بالصفح؟ ستُجيب، بلا تردد: "الرجل الحقيقي لا يحتمل هذا". فكيف نحمل من يُؤذى ويتألم على كتم مشاعره باسم "الطيبة"؟

إن الطيبة في مواجهة الأذى اليومي البسيط — كالنميمة أو المؤامرات الفارغة — قد تكون خيارًا ذكيًا لحفظ السلام الداخلي، لكن لا ينبغي أن تتحول إلى مبدأ مطلق أمام كل شر. فالحياة مليئة بمعارك، ويجب أن نختار بحكمة متى نكون عافين، ومتى نكون حازمين.

ذاكرة الدم: الطيبة ليست عدالة

ننتقل إلى ملف وطني حساس: العشرية السوداء في الجزائر، التي حصدت أرواح الأبرياء في صمت مطبق، وسط تواطؤ إعلامي، وتضييق على من حاول قول الحقيقة. ثم طُرحت "المصالحة الوطنية" كحل، رغم أن القاتل قد أفلت من العقاب، والضحية دُفن في صمت. من دفع الثمن؟ ومن حصد الغنيمة؟!

صحيح أن المصالحة أعادت الأمن، لكنها لم تُعد الحقوق. هل يمكن للأرواح التي فقدناها أن تُعوّض؟ ستقول لي: "القصاص عند الله". لكن من لم يذق مرارة فقد الأحبة، لن يفهم عمق هذا الجرح.

قارن ذلك بما حدث — أو لم يحدث — في سوريا. حين طُرحت فكرة العفو، أجابت الحكومة الجديدة بكل وضوح: "لا"، وبدأت حملة تعقب لكل من تلطخت يداه بالدم. فهل تطلب من أهل سوريا أن يسامحوا نظامًا أهلكهم؟ كيف نقنعهم بالسلام مع من أهدر السلام؟

الطيبة ليست ضعفًا، لكنها ليست الحل دائمًا

نعم، الطيبة خلق عظيم، لكنها يجب أن تكون قرارًا واعيًا نابعًا من قوة داخلية، لا من عجز عن المواجهة. هناك فرق كبير بين أن تعفو لأنك قادر، وأن تتسامح لأنك لا تملك خيارًا.

دعونا نكون واقعيين: ليست كل معركة تستحق الرد، وليست كل إساءة يُرد عليها بعنف، لكن أيضًا، ليست كل إساءة يُرد عليها بصمت.

رؤى من الظل والضوء

الأطفال الذين لم يروا الحرب من قبل، والأطفال الذين لم يعرفوا السلام من قبل، يحملون قيماً مختلفة. وكما قال دوفلامينغو في أنمي ون بيس:

"العدالة التي تتحدث عنها، تعتمد على من يروي القصة."

فلنُروِ نحن قصتنا، نحن الذين عرفنا الألم، وعرفنا معنى النهوض. لنكن طيبين، لكن لا نسمح أن يُستغل هذا الطيب في غير موضعه. الرحمة لا تنفي الحزم، والصفح لا يعارض العدالة، والقوة لا تعني البطش... إنما تعني القدرة على الاختيار.