يمرّ بك وبي وبنا جميعا تجارب جمّة منذ ولادتنا حتى مماتنا، تتجمع وتتعاضد لتشكل شخصياتنا بطريقة أو بأخرى، وكل تجربة تكون نكون معها وبعدها.

إن الفهم النظري للكون والطبيعة الهلوغرامية له أدت بعض العلماء إلى اعطاء نظريات كثيرة عنه وعن الزمن وشخصياتنا التي تعيش فيه.

وقد شُرح لنا (رغم أنها نظريات غير مؤكدة) كيف أن وجودنا الحالي لا يعدو كونه سلسلة غير متناهية من نسخ منا كل واحدة تعيش في لحظة منفصلة عن الأخرى، فمثلا، أنا الذي أكتب النص الحالي ليس نفس الشخص الذي وصل إلى هذه الكلمة هو نفسه الذي كتب الكلمة قبلها أو الفقرة قبلها أو ما يليه وهكذا دواليك.

وكأننا عبارة عن فيلم سنمائي طويل من الصور المتلاحقة والتي هي نحن في لحظات مختلفة، ومعا جميعا تكوّن ماضينا وحاضرنا.

وإن سلّمنا بحقيقة هذه النظريّة، فإننا لا نمتّ بصلة إلى الشخص الذي كان منذ دقائق في الرواق أو الخارج أو في نفس المكان حتّى، وهذا يقودنا للسؤال، إن كان وجودنا الفزيائي نفسه (ظاهريا، لأن في كل لحظة تمر تلد مئات الآلاف من الخلايا وتموت أخرى)، لكن وجودنا الأثيري منقسم، إلى كيانات مختلفة، إذن ماذا عن كل مخزوننا الفكري والحسي ؟.

التسليم بالنظرية أعلاه يقودنا للاعتقاد أن ذلك الطفل الذي كنّاه يوما، وذلك الشاب أو الكهل هو ليس نفسه هذا الشيخ، بالشطر الفزيائي والروحي ومعه كل ما يحتويه العقل من أفكار وكل ما يخزنه القلب من أحاسيس.

إن الاعتقاد بهذه النظرية قد يكون من أجمل الطرق التي تساعد الناس على التخلّص من عقدهم النفسيّة واضطراباتهم القديمة المخزّنة.

حينما نكون في حالة سيّئة جسديا ككسر في الذراع مثلا، فإن الألم يأتي من الذراع والأماكن المصابة فقط، لكنه لن يأتي من قضيبك الذي آلمك في عمليّة الختان عندما كنت في الخامسة، ولن يؤلمك مكان ابرة مضادات الصدأ التي وخزت بها حينما كنت في العاشرة، لكن حينما نشعر بالحزن بسبب ألم معنوي، فإننا غالبا ما نركن ونأخذ مكانا قصيّا لنعيش تلك الفترة، فإذا بنا وعندما نركن إلى حزننا نجد داخلنا أشخاصا كثيرون سبقونا وتلملموا حول نار الحزن.

قد تجد ذلك الطفل الذي عاش طفولة متعبة، وذلك المراهق الذي تعرّض للتنمر، وذلك الشاب المخفق في حياته، وذلك الكهل المثقل بالمسؤولية...فحينما تجلس معهم حول نار حزنك الحالي، تجدهم واحدا تلو الآخر يرمي بحطب الآلام القديمة إلى تلكم النار، فتبدأ بالحزن بسبب حدث في الزمن الحاضر ثم تجدك تحزن بسبب آلام شخصك وأشخاصك القدامى الغير معالجة.

وهذا ما يقود الناس غالبا إلى الحزن الشديد والاكتئاب ولوم النفوس وكرهها إلخ...وحتى ذلك الحين، نحن نؤمن بأن ذلك الطفل المتأذي هو أنت في الوقت الحاضر، وذلك الشاب الحزين هو أنت في الوقت الحاضر كذلك، وتقنع نفسك بل تسلّم بأن هذا واقع معاش وحقيقة قويّة.

ماذا لو فكرت بطريقة مختلفة، اقلب الموشور الذي تنظر من خلاله واستعمل زاوية أخرى.

إن كانت كياناتنا مختلفة كل الاختلاف بل منفصلة كليّا، فلماذا عليّ التصديق بالوهم الذي يقول لي بأن ذلك الطفل الحزين بسبب ما حدث له منذ 20 سنة هو أنا الآن؟ لو فكرنا بهذه الطريقة فيمكننا أن نرى بأن هذه النفوس المريضة القديمة داخلنا ليست سوى طفيليات على حاضرنا المعاش، أتت بكل السلبيّة القديمة اللامعالجة وارتضينا نحن بحملها بل وصدّقنا أن علينا فعل ذلك.

لو كانت هذه "الطفيليات" ليست بذلك، وقد تتحجج بأن هذه الكيانات ليست جديرة بهذه التسمية فدعنا نقارن الطفيليات المعروفة بهذه الكيانات الداخليّة.

الطفيليات مخلوقات دخيلة على الجسم، وكذلك هذه الكيانات، فليست لها علاقة بنا حاضرا سوى بوجود فكري في رؤوسنا تحضر فقط إلى عقولنا ونفوسنا بدعوة (الذاكرة) أو بدون دعوة (الحزن). كذلك الطيفيات تؤذي الجسم المضاف، كذلك هذه الكيانات تؤذي النفوس ولا تأتي بالخير للشخص الذي يستحضرها.

فإن كانت هذه الكيانات القديمة التي نعدّها نحن في ما مضى ، تريد لنا الخير فلمَ لا تأتي بذلك الوضوح والقوّة الذي تأتي به في أوقات السعادة مثلما تأتي به في أوقات الحزن ؟ .

وللتخلص من هذه الطفيليات وعقدها النفسيّة، علينا معاملتها بحزم ولين في الآن عينه.

بحزم يعني أن نحلقها مشاعريا للأبد، وبلين لأننا ومهما استطعنا الفصل بين وجودنا الحاضر والوهم الذي يسمّى "ماض" فإننا وفي مكان قصي نجد العاطفة ترثي قليلا على تلك الكيانات لأننا لن نصدّق بل لن نسلّم كليا بالنظرية أعلاه، فنظلّ دوما ولو بقدر قليل نؤمن بأن تلك الكيانات هي نحن، تلك الكيانات التي عانت كثيرا والتي قد نخذلها بدم بارد مثلما خذلت قديما.

ويتعدد اللين مثلما لا يتعدد الحزم هنا، وفي رأيي فإن افضل اللين يبدا بالإيمان بأن هذه الكيانات طيفليات تحمل أسمائنا ووجوهنا، فنأتي بها أمامنا ونُجلس ذلك الطفل والشاب والكهل والشيخ المتألم نحدثهم واحدا تو الآخر بكل صدق ورجاء.

"اسمعني يا (اسمك) أنا أعرف مدى الحزن والألم الذي تعانيه وأنا أقول لك بأنك لم تكن تستحقّ ذلك، كان الأجدر بالحال أن يكون غير ذلك، لقد قاسيت كثيرا وشعرت بالدون والوضاعة والرخص والقنطة والجوع والعطش والعري و....لكن الآن أنا شخص من المستقبل لست أنت، وأنت تؤذيني كثيرا، وأنا أعرف بأنك لا تريد ذلك، أنا اسماحك يا حبيبي، لكن أرجوك دعني أعيش حياتي......"

ثم تقبر كل كيان على حدى بعد أن تسامحهم جميعا وتدعوهم أن يتركوك تعيش بسلام.

هذه الحلاقة المشاعريّة والإيمان بأننا نلد من جديد كل لحظة تمرّ ستساعدنا على رمي كل تلك الجبال من الأحمال القديمة، وهو كتخليص الخزانة العامرة بالملابس التي لا نريدها قبل أن تنكسر الأبواب.