بسم الله الرحمن الرحيم
القوة الجسدية والقوة النفسية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
إن القوة الجسدية والقوة النفسية لدى المرء لا يشترط أن تكون متناسبة أو متساوية، فالبعض قد يكون ذا قوة جسدية عالية وقابلة للتقوية وزيادة قدرتها على الاحتمال. ولكن قد تكون قوّة هذا المرء القوي الجسد، ليست متساوية مع قوّته النفسية، فقد تكون قوته النفسية أضعف بقليل أو كثير من قوته الجسدية. ومثل هذا المرء قد يظن البعض بأنه متخاذل أو متكاسل أو جبان ولا يحاول استغلال قوته الجسدية الطبيعية في شيء يناسب قوته الجسدية. ولكن هذا المرء إذا حاول أن يستغل قوّته الجسدية ويصل بها إلى أقصى حدودها، فقد يُنهك نفسيته، وقد يُصاب بالحزن والضيقة وقد يصل به الأمر إلى الاكتئاب. وذلك لأنه لم يُعِر نفسيته وقوته النفسية بالاً، وحاول أن يجاري قوته جسده التي هي أقوى من قوته النفسية بأشواط، فقد تبدأ همومه تزداد وقد يُنهك نفسيته كثيراً لدرجة لا يمكنها تحمّلها من دون إعداد صحيح لها.
والحياة غالباً قد تجلب له ما يمكّنه من تطوير نفسه وتدريبها على الاحتمال النفسي، فإن لم يستطع احتمال اختبارات الدنيا، وبدأ يغضب على كل صغيرة وكبيرة، ويبالغ في تصرفاته دائماً، فقد لا يستفيد كثيراً من هذه الاختبارات والنوائب، ولكن إن أراد أن يستفيد مما تأتيه به الحياة من خير وشر، فله أن يحمد الله أحياناً على بعض الخير الذي يصيبه الذي هو نعمة من الله سبحانه وتعالى، وله أن يستمتع بالخير الذي لديه والذي يأتيه باعتدال أحياناً، وذلك ليروّض نفسه على الاعتدال في بعض أموره، وله أن لا يبالغ كثيراً في التعامل مع هذا الخير أحياناً. أما ما يأتيه من شر فله أن يصبر عليه أحياناً ويدعو الله أحياناً بالخير ويستعيذ به أحياناً من الشر، لعلّ الفرج يأتيه وينشرح صدره أو يزول همّه. ويتعلّم أحياناً خلال ذلك وأثناء الضوائق التي كانت تصيبه الصبر والاحتمال النفسي، فيزيد بذلك من قوته النفسية. ومع استمرار المرء في مواجهة النوائب أحياناً بالصبر والهدوء والاعتدال في انفعالاته، فقد يصل بقوته النفسية إلى مستوى قوته الجسدية، فيجد أن قوته الداخلية أصبحت متقاربة مع قوته الجسدية، وأصبح بإمكانه خوْض غمار الحياة دون أن يخشى كثيراً على نفسه، فجسده عندما يبدأ بالتعب فإن قوته النفسية ستبدأ هي الأخرى بالتعب، مما سيساعده على التوازن في أموره، ولن يُحمّل نفسه أحياناً ما يفوق طاقته الجسدية أو النفسية.
أما إن كان المرء ذا قوّة نفسية عالية وفي نفس الوقت كان صاحب جسد ضعيف، فقد يضع أحلاماً وأهدافاً عظيمة، ليس بمقدور جسده احتمالها، فقد يقوم أحياناً بجرّ جسده جرّاً لتحقيق أحلامه وطموحاته، مما سيُنهك جسده ويُضعفه وقد يخذله في النهاية ويسقط جسده متعباً وكسيراً لا يقوى على الاستمرار. فهذا المرء له أحياناً أن يُقوّي جسده ويروّضه على الاحتمال إن كان بحاجة إلى أن يزيد من قوّة جسده ليحتمل الاستمرار في الجري نحو أهدافه الطيّبة خاصّة إذا كان عمله يتطلّب مجهوداً بدنياً. أما إن كان عمله فكرياً أو ذهنياً فقد لا يحتاج في أغلب الأحيان إلى المجهود البدني أو إلى اللياقة الجسدية. ولكن إن تطلّب عمله أن يسافر كثيراً ويقابل الكثير من الناس، فقد يُنهك جسده أكثر مما يحتمل، فله أن يمارس أحياناً نشاطات جسدية تزيد من قوته ولياقته، ليستطيع ملاحقة أهدافه وطموحاته. وأحياناً ما يكون هذا المرء لديه قوّة نفسية عظيمة تفوق قوّته الجسدية بمراحل، فيشعر أحياناً وكأنه طائر عظيم مكبّل بسلاسل جسده التي تُقيّده وتمنعه من الطيران والتحليق إلى الأعالي. فله أن يحاول أحياناً أن يقوم بتغيير أحلامه وأهدافه أو تعديلها بحيث لا تتطلّب جهداً بدني يفوق طاقته واحتماله، وله أن يركّز أكثر على العمل الذهني والفكري، وله أن يقوم هو بالدور الذهني في مشاريعه وطموحاته، وله أن يوظّف آخرين ليترك العمل البدني والجسدي لهم، حتى لا يُضعف نفسه ويُنهك جسده، فيما يمكن لغيره القيام به، وله أن يتفرّغ هو أحياناً لأفكاره وللعمل الذهني... هذا والله أعلم.