في مقال آخر يحمل عنوان (مستويات الوعي) واحدة من الأسئلة التي أرقتني كثيرا, وهي تتقاطع مع مفهوم الفن, والفارق بين المعنى والسعادة, في أكثر من موضع. بل والمنظومة الإجتماعية كلها. والسؤال هو؛ ما الفرق بين فرد مؤثر على المجتمع, وفرد فاعل في المجتمع؟ وهو سؤال يحتاج عناية فائقة في النظر إلى كل عنصر في تكوينه.

الـ (ما؟) تفيد السؤال عن ماهية هذا الفارق, وقبله عن النموذجين المطروحين في المقارنة. وطبيعة البينية هنا, معقدة ومتشابكة إلى حد كبير, مما يصعب عمل أي مقارنة للمفاضلة بينهما, وهي الغاية من طرح هذا السؤال. وذلك لأننا تحدثنا عنهما, كما هو ملاحظ, بإلحاق صفتين إيجابيتين إليهما؛ فالأول مؤثر والثاني فاعل لم يغب تأثيره عن هذا المجتمع. وربما تظهر الإجابة في حرفي الجرّ, فالأول مؤثر (على) هذا المجتمع, مما يزيد من علو مكانته. أما الثاني, مجرد فاعل (في) هذا المجتمع. فاعلية غالبا مؤثرة, ولكنها لا تتصف بالتأثير الأكبر كما في حالة الأول.

هذا الأول هو ما نعاينه هنا, والسؤال الآخر الذي يطرح نفسه

هل أثر ذلك الفرد يأتي متساوقا مع المجتمع, أو مغيرا فيه مختلفا عنه؟

وهذا يقودنا إلى محاولة تحليل الآثار الطيبة من الآثار الزائلة. ولكن قبل ذلك, وبغض النظر مؤقتا عن الحالتين. هل أثره هذا, يعطيه أهمية أكبر من أفراد المجتمع المنتفعين من هذا الأثر, أو المتفاعلين مع هذا الأثر, أو الداعمين لهذا الأثر؟.

يبدوا أننا أجبنا على السؤال قبل أن نسأل, حين ميزنا بين الباقي والزائل, إذن يصبح كل ما هو باق ذو قيمة, وكل ما هو زائل يفقد قيمته. أقول يفقد قيمته, ولم أقل أنه بلا قيمة. تمثلت قيمته الأساسية في كونه صانع لمجد الآخر, المتلقي بمختلف أنواعه؛ قارئا, متابعا, مشاهدا, متذوقا, ناقدا, ناشرا, صحافيا, داعيا. يعترف أي نجم من نجوم الفن أو الفكر أن ألق نجمه وقوده الناس الذين يتحولون إلى مسمى (جماهير).

قبل الإنتقال إلى الآتي نوضح ونكرر ونؤكد على أمرين

الأول أنه لا يوجد إنسان مساو لإنسان آخر, هذه قاعدة تحتمها حقيقة كون كل إنسان مختلف عن الإنسان الآخر. بل وتؤكدها أبسط المظاهر الإجتماعية في الحياة اليومية, أو أكثر تجلياتها في الأزمة الطبقية والإختلافات الثقافية المولدة لصراعات أيديولوجية. وهي التي تولد الظرف الأسود المسبب لـ حكم النفس على النفس والخنوع إلى هذا الحكم يسمى بالعرف لدى كل الناس, بينما النفس الأصيلة والحرة تتوق إلى التحرر.

الأمر الثاني الذي نؤكد عليه, هو فاعلية التحرر, إن اتخاذ كل إنسان, لطريق معين, بين السهل والشقي, بين التأثير والاستكانة, التمرد والخنوع, هو مسبب لاختلافنا أو وليد هذا الاختلاف, ولكن النتيجة النهائية ليست واحدة.

سلكت اتجاهان لفهم هذه الظاهرة (أي ظاهرة التفاوت المعرفي والثقافي بين فئة وأخرى).

الأول هو بيان هذه الفروق وطبيعتها وأسبابها بين الفئات المختلفة المتفاوتة على الصعيد الإجتماعي أو الإقتصادي أو الثقافي. مثلما حاولت في (مساحات الفهم) و(مستويات الوعي).

الثاني هو التركيز على الفئة الأقل حظا بين جميع شرائح المجتمع الأخرى في المال والمعيشة والثقافة. وقدر ما يحصلوه من ثقافة رغم ضيق الحال.

والأمية ليست مقترنة فقط بمعرفة القراءة والكتابة, وإن كانت تلك أهم صور الأمية التي يجب القضاء عليها, ولكنها تشمل صور أخرى وقد تعرضت لبعضها في نقدي لأعمال نجيب محفوظ الروائية, وأعمال هيتشكوك السينمائية, والآن لم أعد أتذكر العلاقة بينهما.

انظر مقالنا الآخر بعنوان

الأبيض والأسود