عندما تخبر أحد معارفك هذه الأيام أنك تصاب بالتوتر بشكل مفرط، سيقول لك وأنا كذلك، فإذا زدت وقلت أنك لا تتمكن من تهدئة نفسك وقد يصل الأمر إلى نوبة هلع تفقدك القدرة على التصرف في المواقف التي تبدو بسيطة أو عادية أو حتى الخطيرة منها وبأنك تجد نفسك متجمدًا فيها، سيقول لك وأنا أيضاً، فإذا قلت له أنك تخاف من الناس وتخشى المواقف الاجتماعية رغم أن الوحدة لا تؤنسك وهي بدورها تسبب لك الخوف والقلق، لن تسمع إلا وأنا أيضا. 

المريض تائه وسط القطيع

وهذه معضلة شرح مشكلة مريض التوتر والقلق النفسي في مجتمع المدينة، لأن الكثير من شعب المدن يعاني من نفس الاعراض تقريبا، ولا أبالغ أن قلت ان نسبة لا بأس بها منهم يتعاطى أدوية مخففة لتلك الأعراض، أو حتى أدوية تساعد على النوم في أقل تقدير. 

الناس موهمون بالمرض

لكن المشكلة أن أغلب هؤلاء ليسوا مرضى فعلاً، بل إن طبيعة الحياة السريعة التي يعيشونها، وكمية المدخلات اليومية من المعلومات والأخبار التي تعالجها أدمغتهم كبيرة لدرجة مخيفة، تجعل أدمغتهم تبني تصورات غير مدروسة عن المستقبل، تحملهم على التشاؤم والخوف من المجهول القادم، وهذا ما يجعل أقل حدث مؤسف كإنقطاع المياة عن محافظة ما لعدة ساعات، يسبب ذعر وخوف حول مستقبل المياة لدى شخص يعيش في منطقة أخرى، فقط لأنه قرأ مقالا ربطت ما بين الأمرين، أو أن تغرق فتاة في نوبة اكتئاب فقط لأنها زادت بضع كيلوا جرامات في وزنها، وبدأ عقلها يتخيل المستقبل المليء بالأمراض والمشاكل الاجتماعية بسبب تلك الزايدة البسيطة في الوزن، وهذا ما يجعل تلك المؤثرات الخارجية تولد تيار مستمر من التوتر والقلق النفسي عند هؤلاء، لكن وبمجرد الانقطاع عن هذا النمط المكثف والمضغوط من الحياة، يتوقف هذا التيار وتعود النفس إلى سكونها. 

المريض لا يتعافى بالهدوء

إلا عندما نتحدث مريض التوتر النفسي، فهو الوحيد الذي يعاني من أعراض التوتر والقلق حتى في الأوضاع المستقرة البعيدة عن كل المؤثرات الخارجية التي تسبب القلق، لدرجة تحمل بعض المقربين منه على سؤاله عما يقلقه وأنه لا يوجد شيء يدعوا للقلق من الأساس؛

ولهذا يعتبر التوتر المرضي من أسوأ الامراض التي يمكن أن تصيب أي إنسان، فعلاوة على الاعراض التي لا يوجد لها مبرر منطقي والتي ذكرتها في مقدمة المقال، فإن المريض لا يجد طريقة أو فرصة للتعبير عن مرضه أو الشكوى منه، هذا إن كان يفهم ما يحصل معه من الأساس، بالإضافة إلى أنه يُتهم دائما بأنه يبالغ في قلقه، كما يَتهم الناس المكتئب أنه يبالغ في حزنه، رغم أن كلا الأمرين غير صحيح. 

يجب أن ننزل أعمق من السطح

لذلك ولفهم طبيعة مرض التوتر النفسي علينا أن نعود بالمريض إلى الأصول، وهي فترة التنشئة والتربية التي كان يستقي فيها المريض أول دروسه عن الحياة؛

القصة تبدأ عند الأهل

والآن علينا أن نقسم الناس في فترة الطفولة إلى قسمين: القسم الأول من تربى منهم على الحب، والقسم الثاني من تربى على الخوف.

الحب يزرع الثقة

أما بالنسبة للقسم الأول فهم الأطفال الذين تمتعوا بالتربية الحنونة، التي كان أهلهم فيها يحيطونهم بالرعاية ويظهرون لهم مظاهر الود والتقدير، مع ترك مساحة من الحرية ليقوم الطفل بالتجارب الطفولية المناسبة لعمره، ويتعلم من خلالها ويشكل أول تصوراته عن الحياة، تحت رعاية ودعم الأهل، وهنا يكبر هذا الطفل وعنده ثقة داخلية بالنفس نابعة من إيمانه بقدراته وإمكانياته، التي استكشفها بعمق أيام طفولته بتوجيه واهتمام من أهله، وهذا الطفل يكبر وينضج نفسياً بطريقة صحية لأنه مر بتجارب كثيرة في طفولته، جعلته يعرف كيف يواجه المواقف الصعبة، وكيف يتصرف فيها. 

الخوف ينزع الثقة

بعكس القسم الثاني الذي كان أهله في مشاكل ومناوشات مستمرة، مما جعلهما يبالغان في حماية ابنهما بشكل مفرط، فالأم بسبب عدم ثقتها في الاب ترفض أن تترك ابنها يرافقه إلى الحديقة، والأب بسبب غضبه من الأم يرفض أن تزور أهلها برفقة إبنه، مما يدع الطفل فريسة للوحدة والألم وقد يعاني من بعض المواقف الغير مناسبة لعمره، مثل تضارب الأوامر بين الأم والأب وتلقيه العقاب في كلتا الحالتين إذا نفذ أحد الأمرين وتجاهل الآخر، أو حتى أن يجد الطفل نفسه مضطراً إلى أخذ أحد الجانبين في مشكلة خاصة بين الأب والأم، ويتوجب عليه التخلي عن أحدهما، كل تلك المواقف وغيرها تزعزع ثقة الطفل في نفسه، فيكبر وهو بحاجة دائمة إلى مصدر خارجي ليتمكن من الوثوق بنفسه، وفي حالة وجد هذا الشاب أي شخص أو جهة تعزز له إحساسه بالانتماء والايمان والثقة، يهرع إليها فوراً من دون تفكير وهذا يبني المجرمين والمدمنين بل وحتى أصحاب المبادئ الفاسدة في المجتمع، فمن لم يربيه أبوه وامه يربيه الشارع بحسب البيئة التي يعيش فيها؛

في حالة تركنا الماء يغلي على النار

لكن إذا كبر الطفل وهو لا يزال في مرحلة التنازع الداخلي ولم يجد من يعزز له ثقته بنفسه، فإنه يشعر بأنه على هامش الحياة وأن وجوده بلا قيمة أو معنى، ومن هنا تنهشه كافة الامراض النفسية ومنها بالطبع التوتر المرضي، الذي يكون نتيجة لصورة مشوهة عن الذات ناتجة عن سنوات من التخبط والألم التي عاشها وهو طفل، فهذا الشاب الآن عبارة عن وعاء خاوٍ داخليا، لا يجد أي مبرر للتمسك بالحياة إلا بعض الأمور التي يمكن أن تكون ساعدته وهو صغير، من الذكريات والأشخاص وبعض الهوايات كان تجد شابا كبيرا ما زال يحب اللعب بألعاب الصغار مثلاً، لكنه يظل في حالة قلق داخلي ونزاع نفسي مرير، نتيجة قلة أو حتى انعدام إحساسه بقيمته وبما يمتلك من مهارات أو إمكانيات.

لا وجود للثقة من الأساس

وهنا لن يكفي مدحه أو اخباره بما يمتلك من مهارات أو مواهب، فهو قد اكتفى من الكلام، ولم يعد يصدق الوعود، إنما أكثر ما يمكن أن يجعل المصاب بهذه الحالة يقاوم وساوس نفسه، هو أن يحس ويشعر بقيمته وانتمائه لكيان ما، إلا أن مجتمعنا الغريب يرفض المخلصين، ويحرض الناس تحريضا عن التخلي عن المبادئ الذين هم مؤمنون بها، ويمتحنهم فيها مما يؤدي إلى سقوط كثير من مصابي التوتر النفسي في الكثير من الأخطاء والمسالك الغير سوية، بحثا عن الدعم والانتماء لكنهم في النهاية يجدون أنهم يعانون أكثر، وتنهشهم ضمائرهم بسبب نظرة المجتمع الذي تزداد بغضاً وإبعادً لهم بعد كل خطأ، ففي البداية يكرهه الناس لأنه مهزوز ولا فائدة منه، بعدها يكرهونه لأنه يمارس عادات خاطئة، وبعدها بسبب تعرفه على أناس مشبوهين، وتنتهي القصة إما بالقبض عليه في جريمة، أو بدخوله هو في طريق لا رجعة منه، ولن يسمع حينها إلا أنه كان إنسان سلبياً وهكذا يستحق.

مهرجان من جنون النقد

لا يدرك عذاب التوتر النفسي إلا المصاب به، لكن لتقريب الحالة من أذهانكم فأخبرني كم يزعجك الصوت العالي سواء من الطفل أو البالغ، تخيل إذا حشدًا يصرخون في وجهك كلما قمت بأي فعل أو رد فعل بسيط، ويذكرونك بكل تفصيلة فيه ويضخمون لك نتائجه حتى تغرق في وسواس يحرمك النوم أو الراحة لأيام، هذا هو التوتر النفسي. 

بلا قيمة ولا معنى

ومن هنا ندرك ان المريض بهذا الداء يعاني من وساوس داخلية مزمنة تنفي عنه كل قيمة إيجابية، وتعزز لديه كل المشاعر السلبية، مما يجعله لا يشعر بالحب،

لأن الحب بالنسبة إليه كان قيمة مشروطة بمتطلبات تفوق قدراته، فلذلك صار يؤمن أنه لن يكون على قدر ثقة أي أحد فيه، إذا لا أحد سيحبه من الأساس، وبالتالي يشعر دائما أنه غير مرغوب فيه، وأن الجميع متضرر من وجوده، لذا يؤثر الانسحاب من كل شيء. 

لا أحد يمكن أن يستمر

ينسحب من العلاقات والنشاطات، وتصل أحيانا به الحالة إلى التخلي عن المسؤوليات، لكونه لا يثق في قدرته على تحملها. 

وأفضل ما يمكننا القيام به مع المصابين بتلك الحالة، هو أن نكون داعمين أو مطمئنين وألا نكون سلبيين. 

الدعم أفضل ما يمكن

داعمين أي أن نساعدهم على إيجاد الانتماء والحب الذي افتقدوه في حياتهم، ولكن دون أن نشعرهم أننا نشفق عليهم أو نحسن إليهم، بل يجب أن يشعروا أننا مؤمنين بهم كما هم ونحبهم لمجرد شخصياتهم فقط، دون أي شروط أو متطلبات، وأيضا من المهم الاعتماد عليهم في الامور المهمة والصبر عليهم وعلى أخطائهم. 

كن دليلا على الامان

وإن لم نستطع أن نكون داعمين، فعلى الأقل يجب أن نكون مطمئنين، بمعنى أن نحاول مساعدتهم في محاربة الوساوس العقلية التي تهاجمهم، من خلال تنبيههم إلى مكامن الحسن فيهم، ومساعدتهم على تجنب التفكير السلبي، من خلال مساعدتهم على تفريغ قلقهم وتوترهم، وتعويضه بأفكار إيجابية تعزز من ثقتهم بأنفسهم. 

لا تكون عونا لشياطين عقلي

وإن لم نقدر على تنفيذ المبدأين الأول والثاني، فعلى الأقل ندعهم وشأنهم ولا نحاول دعم تصوراتهم السلبية عن أنفسهم، وإياكم أن تحذروهم من التبعات المستقلبية لأفعالهم بصورة سلبية، لأن هذا سيزيد من قلقهم، لأن المريض بهذا الداء قد يلجأ إلى بعض المواد أو السلوكيات الإدمانية فقط ليخفف من توتره، فإن أردت مساعدته لا تقل له إن لم تكف عن ممارسة الإدمان ستهلك وتواجه عواقب وخيمة، لأنه بالفعل يعلم ذلك، لكن حاول أن تعلمه وسائل يتحكم فيها في توتره، فإن كنت لا تستطيع دعه وشأنه. 

وأنهي مقالي بالآية الكريمة التي تحث على الكلمة الطيبة وتحذر من الكلمة الخبيثة:

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ [إبراهيم:٢٤-٢٦].