بسم الله الرحمن الرحيم

الكلمات

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

إن بإمكان الكلمات أن تكشف الكثير عن صاحبها فالكلام عبارة عن نافذة إلى العقل, يُري الآخرين من خلاله ما يدور في عقل صاحبه.

وبإمكان المرء أن يعرف الكثير عن من يحادثه ويعرف جوانب كثيرة من شخصيته وطبعه عن طريق كلامه, فالكلمات التي يستخدمها المرء قد تكون في كثير من الأحيان هي ذاتها الكلمات التي يتحدث بها مع نفسه وهي ذاتها الأفكار التي تدور في عقل صاحبها, فالطيّب الحديث والذي ينتقي كلماته بحرص, فكلماته المنتقاة بعناية هي صورة لما في عقله, حيث يكون حذراً من تصديق أي شيء يسمعه أو يقرأ عنه, وكما يتحدث المرء مع الآخرين كما يتحدث مع نفسه, والكلمات التي يستخدمها على الملأ هي في كثير من الأحيان الكلمات ذاتها التي تدور في عقله وفكره, فإن كان المرء يتحدث بألفاظ بذيئة فهو على الأغلب يفكر بهذه الطريقة البذيئة, ويتحدث مع نفسه بهذه الطريقة ذاتها, فالكلمات التي يستخدمها المرء في تفكيره هي ذاتها الكلمات التي يستخدمها في حديثه مع الآخرين. وطريقة حديث المرء مع الآخرين هي صورة لطريقة تفكيره, فإن كان كلامه وحديثه فوضوي وغير مرتب فعقله على الأغلب فوضوي هو الآخر وغير مرتب الأفكار, فعن طريق حديث المرء وكلامه يمكن معرفة طريقة تفكيره.

ومن كان حديثه غير منطقي ولا مترابط فهو على الأغلب غير منطقي كذلك في تفكيره وقد تجد لديه اعتقادات وقناعات غير منطقية, وقد يكون من السهل إقناعه بأي شيء غير منطقي.

ومن كان معظم كلامه سطحي فعلى الأغلب أن تفكيره ايضاً سطحي, وقد تكون لديه أفكار ساذجة للغاية. ولكن من تعمّق في التفكير في فكرة ما فقد يظهر لكلامه في هذه الفكرة شيء من العمق وكلما فكّر بعمق في فكرة ما كلما كان حديثه عن هذه الفكرة أكثر عمقاً, ولكن قد لا يعني ذلك أن التفكير المتعمّق يجعل حديث المرء كلّه عميقاً وإنما يكون حديثه عميقاً في الأفكار التي فكر فيها بعمق فقط.

ومن هنا يكون من السهل معرفة ما الذي يُشغل تفكير المرء ومعرفة طريقة تفكيره بل وكيف يتحدث مع نفسه وكيف يدور عقله ويفكر عن طريق الاستماع لحديثه مع الآخرين.

وليس التفكير وحده هو ما يجعل كلام المرء عميقاً وإنما ايضاً القراءة والكتابة, وعن طريق الكتابة يستطيع المرء أن يأخذ القرّاء في عوالمه كلها الخيالية والمنطقية والعلمية والفكرية, وغالباً ما تكون كتابات المرء أكثر عمقاً من حديثه, فالكلام عبارة عن صورة أكثر دقة ووضوحاً من أفكار صاحبه وهو سهل النطق وسريع الخروج وأقل عمقاً من تفكيره, أما الكتابة فهي عبارة عن عصر للعقل والتفكير وانتقاء لأجمل ما لدى المرء من افكار, فمن كانت كتابته سطحية وتافهة فعلى الأغلب أن تفكيره المعتاد أكثر سطحية وتفاهة, مما يجعل حديثه أكثر سطحية بكثير وأكثر تفاهة من تفكيره.

ولكن يستطيع المرء أيضاً أن يقول ما ليس في قلبه أو في عقله, فيخدع محدثه ويريه ما ليس لديه, وقد يتحدث بخلاف ما يعتقد, فيخرج محدثه بمعلومات خاطئة عنه من حديثه معه, ولكن إن صبر المرء واستمع لمحدثه في أكثر من مناسبة وفي أكثر من موقف, فقد يستطيع أن يتبيّن بعض كذبه ويكتشف حقيقة بعض ما يدور في عقل صاحبه.

ومن هنا نرى أن الصامت في أمان ما لم يتحدث, فإن تحدث فإما أن يكون حديثه له أو عليه...هذا والله أعلم.