واحدة من أكثر الأسباب التي جعلت ثقافة التنمية البشرية يُنظر لها بعين الإزدراء، هي أنّها انغمست في المادّية كثيرًا. وهناك عدد قليل ومحدود من الحيل المادّية التي تبقيك على الطريق الصحيح.
في كتابه (12 قانونًا للحياة) كان جوردان بيترسون يتحدَّث عن الأهداف وملاحقتها، وأبرز من أهميّة أن تكون لك معاني روحية ترتفع فوق مستوى المادّة، وكان يُشير إلى المعاناة التي تصيب من تخلّى عن هذه المعاني الروحية، من خلال تجربته كطبيب نفسي لسنوات طويلة.
ببساطة أن يكون لك هدف روحي يضرب في عُمق الغيب، لا يُرى وإنمّا يُحسّ، هو أضمن طريقة للاستمرار. تستطيع أن تتقدَّم في حياتك بدون هذه المعاني الغيبية، لكنّك تحتاج أن تعمل لمرَّتين أكثر، حتّى تجد هذا الهدف المادّي الذي تسعى للحفاظ عليه، ومرّتين لتبقى تلتزم به حين لا تشعر بذلك.
في مقال سابق لي بعنوان "تأمّلات للفارس الروحي في عصر المادّيات" تحدّثتُ عن أهميّة وجود الشيطان في حياتنا، عندما تتخيّل أن شخصًا خبيثًا يريد أن ينوي بك شرًا، ستنهض لمحاربته بشكل أكثر انفعالًا ممّا لو راودتك فكرة خبيثة فقط.
في مقال اليوم، أريد أن أنقل المعركة الروحية إلى الأصل والأساس، إلى أكثر شيء تدعو إليه الديانات منذ نشأتها، إلى اليوم الموعود، يوم الحساب والآخرة.
فكّرتُ مع نفسي، ما الذي يدعو القرآن الكريم، إلى تكرار الحديث عن يوم الحساب، وتفصيل هذه النقطة بكل طريقة بلاغية ممكنة، وتصوير مشاهد ذلك اليوم بكل طريقة يُمكن أن تتسرَّب إلى المشاعر البشرية وتؤثِّر عليها.
لا شكَّ أن هناك أسباب كثيرة، أسباب يعرفها من انغمسوا في العلم، وأسباب أخرى غيبية، لكنِّي أنا القاصر الفقير، شعرتُ بسبب واحد، وأنا أتمسَّك به وأصوغ له هذا المقال.
ببساطة، الطبيعة البشرية جبانة، تفضِّل السلامة، لن تنغمس في ذنب وهي تعرف علم اليقين، أنّنا سنحاسب غدًا، وأنَّ سُقياها ستكون حِمم من الجحيم الحارقة.
لكن، الطبيعة البشرية نسّاءة أيضًا، وقد تنسى هذا اليوم الموعود. لا أعني أن ينسى المسلم يوم الحساب، والذي هو من المسلَّمات التي يقوم بها الدين، لكن أن ينسى ذلك في عقله اللاواعي، في طريقة تفكيره وتصرّفاته.
نعم، هناك إمكانية أن ننسى ذلك اليوم في طريقة تفكيرنا. الكثير من الأخطاء التي أرتكبها، حين أجلس مع نفسي، وأفكِّر في أسبابي التي جرَّتني إلى ذلك الخطأ، أرى أنَّ التبرير الذي أشرّبته لنفسي كان تبريرًا ماديًا، تبريرًا تناسى يوم الحساب ولم يلتفت إليه.
وعليه، أرى أننا يمكن أن ننسى يوم الحساب، ويضعف إتصالنا به بدرجة ما، تختلف حسب اختلاف الذنب الذي نرتكبه.
أرى أيضًا أنَّ القرآن الكريم -أو أي كتاب ديني تؤمن به- كان يكرِّر تفاصيل اليوم الأخير لهذا السبب. لكي يجعل الإنسان يقوِّي صلته باليوم الأخير، وبالتالي تقليل كميّة الذنوب التي يمكن أن يرتكبها.
بعبارة أخرى، يمكن لتذكّر يوم الحساب، أن يكون "مصفاة" تمسك كثير من الذنوب التي تصرف طاقتك ومجهودك، من دون الحاجة لمقاومة هذه الذنوب والرغبة بها.
ولو ربطنا هذا المقال بمقال الشيطان، فالتفكير بالشيطان كمعنى فيزيائي، كشخص يحاول أن يؤذيك ويقودك إلى المنكرات، يمكن أيضًا أن يعطيك قوّة دافعة لمحاربة الذنوب الباقية التي تسرَّبت من "مصفاة" يوم الحساب.
بدمج يوم الحساب + الشيطان = قلّلت معظم الذنوب الي تشرب من طاقتك، من دون بداية الرحلة أصلًا! تخيَّل كمية الطاقة التي تبقى متوفِّرة لتستخدمها في تعبيد باقي الطريق ورصّفه؟
انتظروا المقال الرابع في السلسلة :)
مقال الشيطان جميع مقالات السلسلة يمكن الوصول لها من خلال هذا الرابط: