بينما كنتُ أسير في معتركِ الحياة، مرَّ أمامي صور وخيالات للطفلةِ التي كنتُها. ما ظننتهُ لي، وما حدثَ بالفعل.

حين كنّا صغارًا، كان العالمُ يبدو كعلبةِ حلوى مُغلقة، كلّ ما كان علينا فعله هو أن نكبرَ لنفتحَها. كنّا ننفثُ في كوب الشاي الساخن قبل أن نشربه، كي لا يلقى لسانُنا نصيبهُ من اللسعات. ثم كبرنا، وعرفنا أن الشاي الدافئ يفقدُ نكهته حين يُشرب ونحن منهَكون.

اعترضنا على النومِ باكرًا، ورأينا في السَّهرِ غنيمة وحرية، فصارَ السهر أرقًا مؤجلًا ومحكمة تفتيش لا ينجو منها أحد.

كنّا نرى في الاستقلالية أضغاث أحلام، كغرفةٍ خاصةٍ نمرح فيها وحدنا، ثم فهمنا، حين لامسنا صدى العزلة، أن الجدران لا تطردُ الوحدة ولا تمنحُ الأمان.

قلنا "لا" في وجه الكبار كأننا نعتلي عرش العالم، أما الآن فنتمنى لو نعودُ صغارًا، كي لا نُجبرَ على قولِ "نعم".

كنّا نحملُ ورقة الطلبات من أمّنا إلى البقَّال، الذي يعرف خطَّها ويفهم ما تريد؛ فيخمّن اسم الغداء ونوع البرغل والحليب، بحذاقةِ الخبرة ومتانةِ العِشرة... كبرنا، فضاعت الورقة، واختفت البساطة.

كنا نعدُّ أيام رمضان كي نفرح بالمكافأة السماوية: العيد. نرتدي فيه الجديد، ونتفاخر آخر المساء بـ"العيديات"، ثم، كحالِ كل عام، نصدّق تلك الجملة الشهيرة على لسانِ نبع الحنان: "أعطيني أخبيلك ياهم." عاد العيد بعد سنوات، وعرفنا أنَّه ليس دائمًا فرحًا، أحيانًا يأتي ناقصًا، صامتًا، أو مُثقَلًا بالغياب.

كان الدمُ حارًّا، والشَّعر يتطايرُ في الشجارات، والأيادي تتعالى مثل مروحةٍ حربيّة، لكن بمجردِ كلمة "آسف" تتصالحُ النفوس، أما اليوم... فبعض القلوب حين تنكسر، لا تكفي ألف كلمة لرتقها، ولا يُجدي معها ألف اعتذار.

كبرنا أكثر… وحلمنا بالجامعة، فظنناها فضاءً للحرية، ونهايةً لخدمةٍ عسكريةٍ طويلةٍ في المدرسة. وحين وصلنا، صفعتنا الحقيقة وقالت: "غدًا عندكم امتحان!"

خرجنا من المعتقل بسلاح العلم المُرخَّص، وبشهادةٍ ظننا أنها ستفتحُ لنا أبواب العمل فورًا… ثم اكتشفنا أن أبواب الانتظار أطول من أبواب الفرص، وأن هناك صنفًا من الناسِ يصعدُ لأنه يُجامل أكثر، لا لأنه يعمل أكثر.

غلبتنا براءة الطفولة، وبرامج التلفاز التي صوّرت لنا الحبّ بالفارسِ الذي يمتطي حصانه من الشرقِ للغربِ هرولةً كي يظفرَ بالأميرة. فوجدنا أن الحب قد يُهزَم بفواتير الحياة، واختلاف الطباع، وضجيج المسؤوليات. حسِبنا في "الزَّفافِ" نهايةً سعيدة، ولم نكن نعلم أن القصة الحقيقية تبدأُ بعد أن ينتهي التصفيق، وينطفئ المسرح.

مرَّت السنين كما يمرُّ الزورقُ الصغير على بحرٍ متلاطمٍ، تهزّه الريح، تربكه العاصفة، ومع كل هذا... يمضي.

أصدقاؤنا كبروا، اللقاءات باتت تُحدد بمواعيدٍ مسبقة، وكلٌّ منهم أضحى في اتجاه... وشاهدنا الوحيد على كل ذلك "سنبقى للأبد" المنقوشة على جذعِ الشجرة.

كبرَ كل شيء... عدا قلب الأم. كنّا نرى أن الأمهات لا يتعبن، خارقات بالفطرة، يشفين بسرعة، يقمن في اليوم التالي كأن شيئًا لم يكن. ثم أدركنا، متأخرين، كم كنّ يخفين الوجع تحت الوسائد، ببطولةٍ لا تُدرَّس.

كان الأمر لا يتطلب أكثر من نداء واحد: "يمّا، جوعان!" كي يجهزَ الطعام. كبرنا واكتشفنا أن الجوع لا يُشبع بسهولة، وأن الطهو يحتاج وقتًا، وجهدًا، ونَفَسًا طويلًا لا نملكه دائمًا.

انتظرنا لحظة المسؤولية. أردناها، تمنيناها، ثم حملناها... وعرفنا كم هي ثقيلة ولا تُشارك.

واليوم... لا نحلمُ سوى بلحظةٍ واحدة: نركضُ فيها نحو الحياة، لا منها. نمشي بخطى ثابتة، لا على رؤوس أصابعنا؛ خشيةً أن نوقظَ فينا ذاك الطفل الذي كتب يومًا: "ما ظننتهُ لي... وما حدثَ بالفعل."