الوصف هو ما يعطي للسرد روحا,ويجعله أكثر واقعية,أو لنقل أكثر إنسانية.
والوصف نوعان
1-وصف الأشياء المادية
2-وصف الأشياء اللامادية
ويتداخل النوعان بشدة وعمق بشكل يستحيل فيهما الفكاك,كما سنرى.
الأشياء المادية
[1] المكان والزمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عند بداية أي قصة,قد تفضل أن تبدأها بوصف مكان ما,لأن المكان يختلف عن الزمان,في كونه وبعيدا عن النظريات الفيزيائية المعقدة التي تمزجهما معا في مفهوم الزمكان,المكان يشغل حيزا من الفراغ. أو هذا ما باد لأعيننا وحواسنا على الأقل. أيضا يمكن البدء بوصف شخصية,لأن الشخصيات مثل الأماكن,تحمل مواصفات جسدية وتجريدية.
والقصص لا يمكن أن تجري إلا داخل إطار من المكان والزمان,فهما وعاء الأحداث,ولا خروج عنهما. إلا إذا جئت بما لم يأتي به الأسبقون. وهناك محاولة تجريبية ناجحة في هذا الصدد مثل رواية شيرين هنائي أسفار النهايات.
والمكان والزمان قد يكونان مؤثرا في مسار الأحداث بدرجات متفاوتة ولكن التأثير دائما قائم. حتى تلك القصص التي قد تجري في أي مكان أو زمان,تظل مقيدة بطبيعة المكان أو الفترة الزمنية التي تدور فيها الأحداث. وحتى في تلك الأعمال التي لا مكان فيها ولا زمان (وهي أعمال تجريبية بامتياز) يظل غياب المكان مؤثرا في الحدث. وهناك طائفة كبيرة من القصص المتأثرة في سير أحداثها وتصميم شخصيتها وجوّها العام بطبيعة المكان,وهو ما سنتبينه أكثر في مقالات لاحقة عن المكان في العمل الأدبي.
[2] الشخصيات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي شخصية لها بناء داخلي نفسي,وبناء داخلي حدثي,وبناء خارجي مادي,وبناء خارج خارجي حدثي. وللتبسيط أيضا نقول أن أي شخصية,لها مواصفات شخصية تحدد شخصيتها على المستوى النفسي وتسير تفاعلاتها على الصعيد الاجتماعي. ثم أن لها مواصفات خارجية جسدية,لا يأبه بها الراوي وقد يركز عليها لكن في ظل قوالب نمطية في عادة. مثلا المرأة الجميلة,يميل التنميط إلى جعلها تستغل هذا الجمال في إغواء الرجال مثل قصة آنا كارنينا رائعة ليو تولستوي. وهذا ليس ضروري. على الجانب الآخر قد يجعلها الكاتب مضحية بفرص الزواج العديدة التي يوفرها لها جمالها في سبيل الوفاء لزوجها الميت. ليس بالضرورة أيضا. أو أن الجميلة قد تكون ذكية أو نبيلة في توافق نمطي سطحي بين الجمال الخارجي والداخلي (الجميلة والوحش للأخوان غريم,أو الجميلة النائمة لشارل بيرو). ليس بالضرورة. بالمقابل قد يجعلها الكاتب مجرد جميلة بلهاء أو حمقاء ومتعجرفة,مثل ترويض النمرة لشكسبير,أو ذهب مع الريح رائعة مارغريت ميتشل. هذا ليس ضروري أيضا.
أما القصد بالبناء الحدثي,الخارجي فهو ما يسير بالشخصية من أحداث وتفاعل الشخصية مع مجريات الأمور حولها. فلا يوجد شخصية (حقيقية) جامدة على المدى القريب. والتغير الحدثي الداخلي هو تطور الشخصية نفسه,فلا يوجد شخصية جامدة على المدى البعيد أيضا فمن طباع البشر التغير والتطور. ولكن ليس بالضرورة التغير من نقيض لنقيض,وإن كان ذلك أفضل حسبما أجمع معظم النقاد الحداثيين والمحدثين.
[3] الفعل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يجب أن يكون الفعل ملموسا. مثلا,لما يطلق النار على البطل,ليس من الضرورة أن تصيبه الطلقة في كتفه دائما,ربما تسبب له عجز دائم,أو حتى تقتله,أو لنقل سوف يموت له عزيز في هذا الحدث. وإذا أصابته الطلقة في كتفه,رجاء دعني أنا بوصفي قارئ أتألم مثلما يتألم هو. لا أقول دعني أشعر بألمه,بل لنقل حاول أن تولد في شعورا بالألم بالفعل. كيف يمكن أن تفعل ذلك؟. في الواقع,الألم هو مفهوم واقع بين الطبيعة المادية والطبيعة التجريدية. الطبيعة المادية للألم,ولأي حدث آخر أو فعل آخر,تقتضي أن يكون لك فعل أو سبب نتائج تتلوه. أما الجانب النفسي والتجريدي من الألم فيمكن التعبير عنه
الأشياء اللامادية
[1] الحدث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد تبدأ القصة مباشرة بالفعل,فعلا الكلام أو فعل الجسد,مثل حوار أو حتى وصف لما سيحدث,أو تطرح تساؤلا. أو تبدأ بالحدث / الفعل مباشرة,إلى الخبر على طول الخط. على سبيل المثال,القصص القصيرة عادة تدخل في موضوعها مباشرة،وبأسرع ما يمكن,وفي العادة أيضا تركز على شخصية واحدة.
وهناك علاقة عضوية بين الخبر والحدث والفعل,الخبر هو وصفك أو نقلك لحدث معين,ثم الحدث نفسه,والفعل الناتج ضرورة عن شخصية تولد فعلا,أو تصدر فعل يأتي كرد فعل على فعل آخر ناتج عن مؤثر إنساني أو طبيعي. ويركز الأدباء على ضرورة أن يكون الفعل البشري مقابلا لفعل بشري آخر,دون تدخل من أي مصادفة غريبة. يشير أحمد خالد توفيق إلى أنه لا ينبغي أن يموت الشرير,بعد أن أرهق أبطال قصة معه,بسقوط الشرفة فوق رأسه. هذا غير منطقي ونوع من الهروب من تعقيدات الحبكة التي أوقع الراوي أبطاله به. أو نوع من نهايات الإله من الآلة أو المنطاد تحت الكرسي الفاشلة. ولكن هذا ليس صحيح في كل الأحوال,لأن المصادفة جزء من الواقع. هي نوع من السببية الخارجة عن السيطرة البشرية. ودين كونتز نجح في توظيفها جيدا برواية الزوج.
أشياء مثل الخبر والحدث والفعل والزمن والسبب والمصادفة أو الحظ تحيطنا من كل مكان ويصعب علينا أن نمسك بها. ضف عليها صفات المكان والشخصيات وحاول أن تحافظ على الرباط المنطقي بينهما,فينتج لك الجوّ العام للقصة.
[2] الرابط المنطقي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يمكن في قصة تدور أحداثها بين أفراد العصابات أن تورط بطريقا متكلما في الموضوع. ما لم يكن هو البطريق نفسه عدو باتمان اللدود,أقصد هنا الشخص المدعو أوزوالد كوبلبوت وهو رجل عصابات خطير. لكن في قصة عن المافيا,ما الذي حشر بطريقا متكلما في الموضوع. وأقصد هنا أن تجعل الحيوان يتكلم فعلا بشكل غرائبي. هذه الغرابة لا دور لها في القصة ما لم تبدأ بها. ووفق تسلسل منطقي بين مجموعة من المجرمين,لا يمكن أن تأتي بهذا البطريق في منتصف الرواية أو بالقرب من نهايتها. هذا النوع من التسلسلات اللامنطقية هي ما تنتهي بك إلى نهاية من نوع (المظلة تحت المقعد) لأنه لم تكن هناك مظلة تحت المقعد,والطائرة الآن تسقط,لكنها ظهرت فجأة. لا يجب بالضرورة أن ينطق حيوان صامت مثل معجزة كي ينقذ البطل,فهذا قد يحدث في قصص الأنبياء فقط. ولكن الراوي قد يرتكب أخطاءا مشابهة لذلك بدعوى أنها واقعية (ولكنها مع ذلك تظل غير منطقية وبالتالي هي أبعد ما يكون عن الواقع). مثل أن يقوم البطل,وهو شخص ضعيف وجبان,بالقضاء على جميع أفراد العصابة,دون عرض لأي تطور عاطفي أو منطقي أو أخلاقي في الشخصية نفسها لتفسير هذا التغير الطارئ عليها. وإذا تحجج كاتب ما بأنه لا يلتزم بالواقع,إذن لا تكتب قصة عن الواقع,يمكنك أن تقدم عملا سرياليا ولا بأس في ذلك,طالما كان الوعد منذ البداية بأنها كذلك,وعدا عن هذا فأنت فقط تربك القارئ وبدون جدوى.
[3] الجوّ العام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبهذا يمكن أن تحافظ على الجوّ العام الذي تولد عن قصتك,والجو العام هو كل شيء تقريبا يحدث أو تقوم بوصفه. الجوّ العام هو ما تخلقه القصة من أجواء تسيطر على المشهد. ويكون الكاتب بارعا بقدر ما يمكنه جعل القارئ يحس بهذه الأجواء كأنه يراها ويسمعها ويلمسها أو يتذوقها,دون بالضرورة أن يلجأ إلى وصف مباشر للشعور أو الإحساس النفسي ذاته. إنها الأجواء التي تبتكر تلك الحالة التي يتفاعل فيها القارئ مع ما يجري من أحداث. ولنعطي مثال عن قصة يصف فيها الراوي معاناة البطل وهو يحاول العبور من حافة أو منحدر. لا يجب أن يشير الكاتب إلى قدمي وإحساسهما بالسقوط والرجفة. مجرد أنه يبرع جيدا في عرض حالة البطل,ووصف صعوبات هذه الحافة,وكونه يضع احتمال سقوط البطل قائما أمام أعين القارئ,قد تنزلق قدمي القارئ إلى هذا الإحساس.
ولا يحتوي الجوّ العام فقط على المشاعر الحسية فحسب,بل والعاطفية أيضا,مثل الفرح والحزن والخوف والغضب والدهشة والنفور والحب. وهذه هي العواطف السبعة الرئيسية في الكائن البشري,والتي تنبثق عنها عواطف أخرى قد تكون قاتمة مثل الإحباط والاكتئاب والقلق والتوتر والترقب والضيق وخلافه. أو مشاعر غير قاتمة مثل الإثارة والشغف وغيره.
[4] بحثا عن الأسلوب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعددت الأساليب الأدبية ولازال كل كاتب يبحث عن أسلوبه الخاص,أو يزعم أن لديه واحدا. حتى هؤلاء الأدباء العظماء الذين ماتوا أصلا,فما زال نجيب محفوظ يعدنا بالمتعة التي يقدمها دائما في قصصه,ولازال حاضرا وسط دفق من الانشغالات الأدبية الملقاة في وجهنا من كل حدب وصوب. وأقول انشغالات لا إبداعات للتمييز بين الحالتين.
هناك ثلاث طرائق فقط للحصول على أسلوب جديد,أو أقله للعثور صوت الراوي خاصتك.
الأولى هو وإتقان المحسنات البديعية والتقنيات البلاغية والأدبية والسردية وإتقانها. هذا يساعد على قدرتك في التعبير عن أفكارك ومشاعرك وفي عرض الأحداث. هذا معناه أيضا تمكن في اللغة وفي أساسيات قواعد النحو ولا أقول كلها,وقد وضعها ستيفن كينغ في مقدمة ما يجب على الكتب وضعه نصب أعينه. أيمن العتوم هو من أفضل الكتاب اليوم في السرد بلغة عربية حصيفة. يمكنك أن تمتعك كتابته كأنها شعر نثري أكثر حتى من الرواية نفسها. وهذا قليل ما يحدث اليوم.
الثانية,هي أن تبتكر طرائق جديدة في السرد,أو تبحث دائما عن عبارات وتعبيرات مغايرة تماما لما هو سائد عن التنميطات المحيطة بنا,حول الرجال الأقوياء,أو الجميلات البلهاء,أو التنانين التي تنفث النار,أو العفريت في الخزانة ولربما تحت الفراش. هذه الطريقة صعبة أيضا.
الثالثة,هو أن يكون الراوي هو أنت. جميعنا لدينا طرائقنا المميزة في حكي حكاية,أو في الثرثرة عموما,أو في التعبير عن مشاعرنا. طرائق مميزة بحكم أننا كائنات بشرية. فنحن الجنس الأكثر تفردا في جميع أفراده. الجنس الوحيد الذي يمكن أن يختلف فيه كل فرد عن الآخر. ولكن هذا مقيد بقانون المصداقية,يسهل كشف الكذب عموما. مهما كنت بارعا فيه. يجب أن تقص تجربتك ورؤيتك لما حولك بمصداقية تامة. ويجب أن تثقل رؤيتك هذه إما بالتجريب وإما بالقراءة ولا حل ثالث مختصر.
يقول الشاعر الروسي سيرغي يسينين
-لا تقلد صوت الكروان. بل غن بصوتك، ولو كان أشبه بصوت الضفدعة.