بقلم/طه عودة أوغلو/باحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية ( خاص لصحيفة سراي بوست)
بعد أن سطرت اسمها بالخط العريض في تاريخ ألمانيا كأول امرأة تتسلم مقاليد الحكم في البلاد وبقاءها لمدة 16 عاما متتالية تغادر المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل منصبها تاركة وراءها بصمة استثنائية في العلاقات التركية الألمانية المعقدة التي تراوحت بين التفاهمات حينا والخضات أحيانا.
كثيرة هي الملفات التي اختلف عليها البلدان في السنوات الأخيرة لعل أهمها انتقاد “برلين” لكثير من المسائل المتعلقة بحكم القانون والديمقراطية والاعتقالات الجماعية في تركيا من بينها اعتقال مواطنين ألمان معظمهم من أصول تركية، وتعامل “أنقرة” مع الإعلام، يضاف إلى ذلك الخلاف الألماني-التركي حول قاعدة “إنجرليك” التابعة للناتو حين سحب الجيش الألماني جنود في أيلول/سبتمبر 2018، وعدم السماح للسياسيين الأتراك بالقيام بحملاتهم الانتخابية التركية في ألمانيا والتي قابلها الرئيس أردوغان بانتقادات لاذعة اتهم فيه ألمانيا بـ”ممارسات نازية” إلى جانب اتهامات “أنقرة” لبرلين بتوفيرها ملاذا آمنا لـ”حزب العمال الكردستاني” المصنف تركيا ودوليا كتنظيم إرهابي.
العلاقات بين البلدين في الأعوام الخمس الأخيرة لم تكن في أحسن أحوالها لكن على الأقل كان لوجود ميركل أثرا تخفيفا ليس فقط على مسار عدم ملامسة العلاقات الثنائية “مستوى الانحدار التام” وإنما أيضا بوقوفها إلى جانب تركيا في منع تفاقم الخلافات مع أوروبا عندما مرت بمحك هو الأخطر بتاريخها لتكون وسيطا نزيها بين تركيا والتيار المعارض لها في أوروبا على غرار ما حدث عندما أجهضت بحكمتها الجهود الفرنسية اليونانية داخل الاتحاد الأوروبي لعزل تركيا وفرض عقوبات اقتصادية مشددة على تركيا، ونصحتهم بالتوصل إلى اتفاق للحفاظ على علاقة بناء مع تركيا وتطويرها بدلا من عقوبات يمكن أن تأتي بمفعول عكسي على اعتبار أن تركيا عضو قوي بحلف شمال الأطلسي (الناتو) وشريك أساسي للاتحاد الأوروبي في ملفات خطيرة أهمها اللاجئين.
صحيح أنه لا يمكن القول أن العلاقات التركية الألمانية كانت مستقرة بل تخللها حالات كثيرة من المد والجزر وفترات من التوتر وصلت إلى حد الصدام المباشر أحيانا واستدعاء السفراء في أوقات أخرى لكنها بقيت في إطار علاقة يمكن وصفها بأنها من “نوع خاص” حيث المصالح المشتركة والمعطيات الاستراتيجية المتداخلة دفعت دوما باتجاه استمرار العلاقات بين البلدين مما وضعها في تصنيف “الطابع الإيجابي”، بل وتأتي في المرتبة الثانية في قوتها بعد العلاقات التركية–الأمريكيـة، والمرتبة الأولى في علاقات تركيا مع باقي دول الاتحـاد الأوروبـي.
والآن بعد أن طوت ألمانيا صفحة مهمة من تاريخها الحديث بمغادرة المرأة الحديدية للسلطة وتسيّد “الحزب الاشتراكي الديمقراطي” الحكم، تتوجه الأنظار نحو مستقبل العلاقات التركية-الألمانية في المرحلة المقبلة..
أغلبية الآراء تقول أن الحكومة الجديدة التي سيشكلها “الحزب الاشتراكي الديمقراطي” ستراعي بالمثل سير العلاقات الثنائية على اعتبار أن الحزب الفائز يمثل تيار يسار الوسط، ولا بد أن يتعامل بوسطية مع تركيا حتى لا يخسر امتيازات مهمة لا سيما وسط سعي الدولتان إلى رفع التبادل التجاري بينهما إلى 50 مليار دولار سنويا، عدا عن أن الجالية التركية في ألمانيا تعد من أكبر تجمعات الأتراك خارج بلادهم بتعداد أكثر من 3 ملايين نسمة تدعم غالبيتها حكومة الرئيس أردوغان
كما أن تركيا أيضا بدأت مؤخرا بتعديل استراتيجيتها مع الدول الأوروبية حيث بدأت العلاقات مع دول مختلفة معها مثل فرنسا تشهد انفراجا وسيستمر هذا المد الإيجابي باتجاه ألمانيا أيضا التي تعتبر “الدينمو” المحرك لكافة الدول الأوروبية..
بالتالي، ستبقى (البراغماتية) هي العنوان العريض للعلاقات التركية الألمانية ومهما اختلفت وتباينت مواقف البلدين إزاء بعض القضايا إلا أن أثرها يبقى أخف في حسابات الربح والخسارة، وأمام مصالح وجوانب كثيرة غاية في الأهمية مثل الجانب الاقتصادي الذي يمثل حجر الزاوية بمسار التقارب بين البلدين، والمصلحة المشتركة لإنهاء الحرب في سوريا إضافة إلى حاجة الدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا الماسة لتركيا في إنجاح مساعي الحد من الهجرة غير الشرعية التي تقض مضاجع الأوروبيين.
المصدر: https://saraypost.com/01/22612/