هناك أحوال نمر بها من فترة لأخرى قد لا يفهمها أحد ممن حولنا، مهما تلاصقت أجسادنا وتشعبت أسرارنا. مثل شعور العجز المفاجئ الذي يلتهمك كإعصار يتيم حل فجأة، دون أن يتنبأ به علماء الطقس. عجز عن الحياة وعن الموت، حيث تصبح مهمة التنفس بالنسبة إليك أمرا شاقا يحتاج مجهودا جبارا لتحقيقه. فيدخل الهواء إلى صدرك كجمل يلج سم الخياط، يلج الجمل وينكسر الخياط وتُطحن أنت. الأمر أشبه بثقوب سوداء منتشرة على سطح عالمنا، والتي نهوي بداخلها دون توقعها فلا نتوقف حتى نلامس قعرها، وحده ألم الارتطام ينبهنا إلى فداحة الكسر. تنتشر الثقوب كوباء لا أمل في شفائه، لنحاول نحن بسذاجة طفل يظن أنه سيحلق إذا ما قفز من سطح بيته تجنبها، ننجح مرة ونتردى مرات كثيرة، كالطفل الذي قرر القفز ليختبر قدرته على التحليق.

يوما ما سألت والدي سؤالا غبيا في شكله صادقا في طياته، كيف سمحت لي بأن أكبر بهذه السرعة، ألم يكن حريا بك أن توقف الزمن عندما كنت طفلة تجري نحوك أمام ساحة المسجد، بعد أن انتظرت خروجك منه لتسألك درهمين، تبتاع بهما بعض السكاكر وقليلا من بذور نوار الشمس؟ كان سؤالا نابعا من حنيني إلى زمن لا أعرف فيه شيئا، وكأن المعرفة فخ ننصبه لأنفسنا، ثم نحاول التحرر منه. فلا يحدث ذلك أبدا.

التقدم في العمر أشبه بالتقدم في رتب جيش نظامي متآكل داخل حرب لا يعرف أحد سبب اندلاعها، التحول التدريجي من عسكري ينفذ الأوامر دون أن يشغل دماغه إن كانت الأوامر ستنجيه أم تنقذه، إلى جنرال يحمل فوق أكتافه نياشينا ترهقه ومسؤولية صفوف من الرجال والنساء، تكاد كلمة منه في غير محلها أن تنهي حياتهم جميعا. تدخل معتركا كبيرا لم تختر التواجد فيه، يُحكم عليك بالسعي نحو التميز، بالنجاح بالعمل بالثروة بإيجاد الحب وامتلاك السعادة. تدخل المنافسة وأنت طفل حول من الابن الأعقل والألطف، ثم التلميذ الأذكى، ثم الطالب الأمهر، ثم الموظف الأكفأ، ثم الزوج الأوفى، فالأب الأقدر، فالميت الأطيب سيرة. حلبات منافساتك تكبر معك يوما بعد يوم، ويدخلها أنداد جدد كل لحظة. وأنت مطالب بالتفوق ولا شيء غيره، إلا أن ثقوب عالمك السوداء تنتظر بروز قدمك فوقها لتمتصك، ثقوب الخوف والعجز والملل والإحباط والسخط والفراغ. ثقوب لا يحبها مجتمعك ولا يعترف بها ولا يسمح لك بالحديث عنها، لأنها اعتراف منك بأنك تركت كل حلبات المنافسة وقبلت بشريتك الهشة، ولو لفترة صغيرة من الزمن.

نعاني جميعا من جنون التباهي بالتفوق وتحمل الصعاب وتحدي المستحيل، ونتوج أكثرنا جنونا بألقاب رنانة تطرب لها الأذن ويخفق لها القلب، ونتباهى بأكثرنا صلابة وصبرا وجلدا، ونكتب حوله الكتب ونغني لأجله الأغاني. وحين يرفع يديه في إشارة إلى سقوط حر داخل ثقب أسود، ننفض من حوله خوفا من أن يعدينا سواده، نتجنبه ونتجنب بكاءه وأنينه، حتى لا تمسنا عدوى ثقوبه. ثم يجد نفسه وحيدا، في مواجهة مصير الهشاشة، منبوذا كحامل داء لا علاج منه. كل التوقعات الملقاة بين يديك بأن تكون بطلا دائما، تحملك حملا إلى دمارك الأكيد.

ألا يحق لنا التصريح بانهيارنا وعجزنا تماما، كما نرفع رايات نصرنا وبشائر تفوقنا؟ ألا يمكننا أن نسقط في ثقوبنا السوداء دون أن نشعر بالعار؟ ألا نستحق أن ننهار دون إحساس فظيع بالذنب؟

إننا لا نجد حرجا في رفع سماعات الهاتف لزف أخبار النجاح والفرح والتميز والرخاء والإنجاز والأرباح، كل الأرقام يمكن تركيبها وكل الأصوات نستطيع انتظار ردها. لكننا نقف عاجزين تائهين أمام كل الأرقام التي نملك، حين يتعلق الأمر بحالة فزع بشري مفاجئ. فجأة يختفي الجميع ولا تعثر في ذهنك حتى على نصف شخص يستطيع أن يبكي معك، أحيانا لا نحتاج سوى رفيق للبكاء، نبكي سويا ثم نقرع كؤوس العهد، بأننا سنلتقي مرة أخرى لأجل عشاء بكاء سخي آخر. تبقى أمنية ترقص بين أمان كثيرة، تتحقق للمحظوظين، من اختارهم الحظ لأن يعثروا على نسختهم الصادقة، القادرة على حمل تيهها إلى السطح والبكاء.