حقيقًة أعظم تفسيرات العلماء لا تقدم على أنها (الـ)حقيقة بل بوصفها اعتقاد مسوغ على أساس تبرير مقرون بالدليل. عندما يضع عالم نظرية معينة، تخضع إلى خطوات التدقيق والتحكيم من قِبل أقرانه، وتتسم العملية بالشفافية لأنها تؤكد على الأهمية البالغة للدليل التجريبي في تقدير قيمة النظرية العلمية. يعتبر المشككون في العلم هذه ثغرة يمكن من خلالها تقويض النظرية التي تتعارض مع حقائقهم الأيديولوجية أو مصالحهم الشخصية وللمحافظة على استفادتهم عليهم في هذه الحالة إنكار نتائج العلم أو التشكيك في حيادية العلماء بشكل عام. لكن أن تكون نظرية مسوغة على أساس الدليل والتجربة ليست عملية سهلة ولا ينبغي للعلماء الخجل من تواضع النبرة العلمية أمام المشككين الذين يعتبرون أن العلم ليس منوطًا باستبعاد نظرية بديلة لأنه مجرد سيرورة مفتوحة لا تغلق الباب أمام التطوير والكشف الجديد. لعل أشهر الأمثلة أمامنا هي قضية تغير المناخ؛ فبرغم عندم وجود اختلاف علمي على حقيقة ارتفاع درجة حرارة الأرض وأن البشر مسؤولون عن ذلك تم إيهام الناس بأن هناك خلاف علمي حول القضية. 

لكن كيف حدث الأمر؟ 

في كتاب "تجار الشك" تتبع نعومي أورسيكيس وإريك كونواي تاريخ التكتيكات التي لُفقت في لجنة أبحاث صناعة التبغ، وكيف أصبحت استراتيجيتهم منافيستو لإنكار العلم. 

اتفق المديرون التنفيذيون لشركات التبغ على توحيد جهودهم من أجل تمويل أبحاث بديلة لتقنع الجماهير بعدم وجود دليل يربط بين التدخين والسرطان وأن الأبحاث السابقة لذلك لقت معارضة من قبل كثير من العلماء (يمكن اعتبار من يقول أن نظرية التطور سقطت في الغرب يمارس نفس الاستراتيجية لكن دون تمويل للعلماء ودون اكتراث بتقديم دلائل على كلامه من الأساس، أي بدون بذل جهد في إثبات ما يقول، لكن هؤلاء مجموعة مختلفة يمكن لتحليل الفيلسوف هاري فرانكفورت للهراء أن يوضح لنا منطق تفكيرهم). 

لنكمل، على الرغم من ظهور أبحاث علمية دامغة توضح أن يربط بين التدخين والسرطان ظلت القضية مطروحة للجدل على مدار أربعة عقود حتى عام 1994 عندما وافقت الشركات أخيرًا على غلق مركز أبحاث التبغ وحينها ظهرت وثائق أوضحت معرفتهم بالحقيقة منذ البداية. 

يشرح كتاب تجار الشك بمزيد من التفصيل استراتيجية التبغ، يجب وجود خبراء وتمويلهم ووضعهم ف وسائل الإعلام أمام العلماء لكي يظهر أن هناك جانبين للقصة والترويج لصالح الجانب الذي سيحقق مصالحنا عبر جماعات الضغط والاستفادة من التشويش على أي نتيجة علمية تخالف مصالحهم. ويوضح الكتاب أن الاستراتيجية تم الاستفادة منها في قضايا عديدة مثل تغير المناخ وثقب الأوزون ومبادرة ريغان للدفاع الاستراتيجي.

لماذا ننتظر العلم إذا كان بإمكاننا اختلاقه؟ لماذا نهتم بتحكيم الأقران إذا كنا نستطيع نشر ما نريد بالتمويل أو الترهيب أو بالعلاقات العامة؟ ولماذا ننتظر قرار من مسؤول حكومي يعرف الحقيقة إذا أمكننا شراءه بأموال الصناعة؟ هذه النبرة التهكمية لمعارضين الحقيقة العلمية، ويمكننا أن نتساءل، هل الحقيقة بالنسبة لنا مهمة أكثر أم راحتنا الأيديولوجية في المنطقة الأمنة التي يوفرها لنا الدين!

وأنتم .. كيف يمكننا التأكد من معرفتنا للحقيقة؟ وهل نحن نفكر بأنفسنا أم تتحكم فينا مصالح أو هراء البعض؟