قد يعيش الإنسان منا على أمل يهواه ويكون تحقيقه بالنسبة إليه أمنية يتمناها ثم فجأة يتحول ما كنا نراه أمنية إلى شئ نتمنى الهرب منه بعيدا، ونرجو ألا يحدث، بل ويتحول حبنا له كرها.
هذا الأمر يحدث كثيرا في حياتنا نحن البشر، كم كان يتمنى أحدنا أمرا ويهيئ نفسه لهذا الأمر من صغره ثم تحدث حادثة ما تجعلنا نغير نظرتنا كليا، فلا تعد أمنياتنا أمنيات، ولا ما نحبه محبوب لنا.
جذبتني هذه الفكرة حينما قرأت الآمال الكبرى لتشارلز ديكنز، وكيف أن الطفل "بيب" في ريعانه كان يتمنى أن يصبح صبيّ حداد كي يساعد زوج أخته وكانت هذه أقصى أمانيه وطموحاته وأعدوه لها مذ كان صغيرا، وهو نفسه كان ينتظر بشوق تحقيق هذه الأمنية،
الطفل "بيب" يقول: "كنت لا أرغب في شئ أكثر من أن أصبح حدادا أساعد جو في أعمال الورشة، فقد كنت أحب جو حبا جما، وكان هو أيضا يبادلني هذا الحب ويعطف علي كثيرا".
لكن بعد تغيرات حصلت لبيب وانفتاحه على عالم آخر أوسع وأكثر ثراء ونفوذا تبدل به الحال شيئا فشيئا وبعدما كانت هذه أمنيته بالاشتراك مع جو أصبح يعبر عنها بكونها أمنية صديقه، هكذا فقط، فعندما سئل إذا ما كان زوج أخته يريده معه قال:
"هذه أعز أمنية لصديقي جو". وكأنه لا يهتم بها إلا من كونها أمنية صديقه فقط،حتى صار هذا الرفض قاطعا في نفسه فيقول بيب:
"ورغم أن ذلك ما كنت أسعى إليه وأتمناه فيما مضى، إلا أنى أصبحت غير راغب في الوقوف أمام فرن الحدادة، بل وغير راغب أيضا أن أعيش حياتي كحداد".
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل حينما جاءته تلك الفرصة العظيمة ليكون"جنتلمان" صار يتنكر لصديقه وكره زيارته وشعر بالمعرة منه.
ورغم أنه كان ينتظر الأيام بفارغ الصبر كي يكون مساعد حداد لصديقه جو، إلا أن الحال تبدل تماما، وحلت مكان آماله القديمة آمالٌ كبرى أخرى أهم، وصار يستشعر العار من حياته وأصله.
فلماذا تتحول أمنياتنا التي كنا نتمناها دوما إلي شئ نتهرب منه ونتمنى ألا يحدث أبدا؟
هناك جملة من الأسباب التي تؤدي إلى ذلك لعل من أهمها:
- انفتاح الإنسان على حياة أخرى ومجتمعات مختلفة، وتفتح العقل على أشياء كان يجهلها.
- تبدل الأحوال والظروف المجتمعية مما يجعل الإنسان يفكر في أحلام أخرى يحققها.
- ظهور آليات جديدة وتوجهات مختلفة عما كان سائدا في مرحلة الصغر.
- كون هذه الأحلام مجرد محاولة للتشبه بمن نحب كالأب والأخ الأكبر.
- والوقوع في الحب، فنسعى لإرضاء ما نحب، وقد يكون هذا الحب حبا للنفس أو المال أو السلطة وقد يكون حبا لشخص آخر نأمل أن يشاركنا الحياة القادمة كما في مثالنا من هذه الرواية.
وقد جرني هذا السؤال لسؤال آخر:
هل يعد هذا التغير خيانة؟ خيانة لمن نحبهم وحاولنا التشبه بهم؟ خيانة لبراءة الأطفال فينا؟ خيانة لمرحلة من العمر كانت لها تطلعاتها؟
وأرى أن في بعض حالات هذا التغير خيانة بالفعل، بل وطعنة لمن جعلناهم يشاركوننا هذه الأمنيات ومنهم من بني عليها خططه للمستقبل.
وأنتم ما الأسباب من وجهة نظركم لهذا التبدل الذي قد يؤدي بنا إلى حال نندم عليها كما في روايتنا؟ وهل ترون هذا التغير خيانة؟
التعليقات