يقدم الروائي عبد الوهاب عيساوي قصةً تاريخيةً منسوجةً بنصٍ شديد الإحكام ومرويّ بخمسة ألسن كلٌ بحسب موضعه من الحياة الاجتماعية والسياسية والعسكرية في الجزائر، ليكون بين أيدينا عملٌ روائيٌّ كأنّه قطعٌ متناثرة من البيان الساحر.

في زمنٍ ليس ببعيد كان للدولة العثمانية دينٌ مستحقٌ على فرنسا، وفرنسا تماطل بدفعه وتتهرّب منه.

وحصل أن اجتمع الباشا الداي “حسين العثماني” بالقنصل الفرنسي في الجزائر “دوفال” وخاض الرجلان في شأن هذا الدين وعاب على القنصل استهتار الملك الفرنسي في ردّه وتجاوبه في دفع ديونه، فأجابه القنصل بأن الملك لاوقت لديه للردّ على الباشا وأمثال الباشا، فالتهبت حميّة الداي حسين ورغى وأزبد بثقيل الكلام ورمى القنصل بمروحةٍ كانت في يده لطم بها وجهه. فهرع القنصل خروجاً من المجلس والباشا يتداركه بكلامٍ يعرف القنصل بعضه وينكر جلّه وهو يتوعّد الباشا بدفع جناية ما فعل.

بعد هذه الحادثة والتي درجت في كتب التاريخ باسم (حادثة المروحة) ركبت فرنسا أساطيلها ووجهتها صوب الجزائر واحتلت البلد سنيناً بلغت مئةً وثلاثين بإدعاءٍ عجيب هو تخليص الجزائر من الحكم العثماني.

إذن تتناول رواية الديوان الإسبرطي للروائي عبد الوهاب عيساوي والحائزة على الجائزة العالمية للرواية العربية بوكر 2020 هذه الحقبة الزمنية تحديداً والتي تتراوح بين عامي 1833 – 1815 وذلك في متنٍ مؤلفٍ من خمسة أقسام فيها خمسة فصول لكل شخصيةٍ من الرواية رأيٌ وموقف.

في تقنية السرد مناورةٌ جميلةٌ بين الشخصيات الخمس التي نجد في تركيبتها النفسية والعقلية تباينٌ واضح ناجمٌ عن بيئاتٍ مختلفة ومصالح متناقضة. شخصيتان منهم فرنسيتان الأولى هو الصحافي الفرنسي “ديبون” المرافق للحملة مثالي جداً ويسعى لحرية الشعوب المُستكرهة على الخنوع، ويرى الخير في استقلالها وحمل صخرة الاحتلال عن صدرها.

وصديقه “كافيار” الكاره للتركي والجزائري على السواء، والذي يقف من صديقه على نقيض فهو يقدّم بياناً مكشوفاً من الحقد ويحرّض على القتل والدم وكأنه يجرّ الرحمة الإنسانية من قدمها ليرمي بها خارج حياته!.

الشخصيات الجزائرية ثلاث: التاجر المسالم اللطيف “ابن ميار” الذي يرفض اللجوء إلى المقاومة المسلّحة، والثائر ذو الحميّة البدوية المتفاني في حب الوطن “حمّة السيلاوي” الناشط في المقاومة الشعبية والذي يرى في الأتراك والفرنسيين وجهين لعملةٍ واحدة، والفاعلة “دوجة” الفتاة الطيبة التي لوّث الأتراك نقاوة قلبها ويسعى الرجلان لتخليصها من مبغى المزاور وإعادتها إلى شاطئ البرّ والعفة.

لا يضع الكاتب شخصياته في موضعٍ إتّهامي بل يتركهم وخطابهم الناجم عن تفاعلاتهم مع البيئة ومسار حركة التاريخ في الجزائر. ويترك للقارئ معرفة حركة الأحداث من ألسنة الرواة دون أن يفسّرها تفسيراً سببياً أومنطقياً وهذا ما يجعل القارئ متلقياً إيجابياً يتفاعل مع الأحداث، ثم تستميله الشخصيات كلّاً بحسب ما يتلائم وشخصه وذهنيّته.

من مهارة الكاتب أنه ورغم اعتماد أصواتٍ راويةٍ مختلفة إلا أن الرواية نهضت ببنائها على تصريف الحوادث لا تصريف الأشخاص، ولكن يؤخذ عليه أنه لم يقدّم مساحةً متساويةً لشخصياته، فما تركه لحديث الفرنسيين “ديبون” و”كافيار” أوسع بكثير مما وصلنا من حديث الجزائريين “حمة السيلاوي” و”ابن ميار” و”دوجة” ، وأكثر من هذا نجد أن “حمة السيلاوي” هذا الثائر المغوار لا نتعرّف عليه من حديث نفسه بل من حديث الشخصيات عنه وكأنّه الحاضر الغائب ولا أدري إن كان هذا التوجّه مقصوداً عمداً من الكاتب!

إذن لاتقول الرواية إلا ما يقوله التاريخ لكنّها كشفت لنا عبر مزايا الدراما التاريخية وجهاً غامضاً من وجوه الماضي القريب الذي لا يزال أثره بيّناً بيننا.

صدرت الرواية عن دار ميم للنشر، وتقع في 384 صفحة من القطع المتوسط، وبرأيي أنها تستحق الجائزة عن جدارة وأنصح بها جميع القرّاء مع تنويه أنها قد لا تصلح في بنائها الروائي الصعب القرّاء الأغرار منهم.