أيّها الفكر، توقفْ عن الركض خلف الظِّلال: تَساءَلْ مع ذاتك — ما قيمة أُمّةٍ تُفقد حقّها في السرد؟ ما الخسارة حين تُستبدل ذاكرَتها بلغةٍ أخرى، وتُستبدل عاداتها بقوالبٍ مقتَرَضةٍ من خارِجها؟ السؤال هنا ليس لوعظٍ عاطفي، بل لمحاكمةٍ عقلانية: من له حقّ تقرير مصيرنا إذا لم نُمارسه نحن بأنفسنا؟
الأمور لا تُبنى بطُرفةِ عينٍ، ولا تُحتَصَر في شعاراتٍ رنانة؛ البناء مشروعٌ امتدادي، يبدأ ببذرةٍ صغيرةٍ من معرفةٍ وتعليمٍ، ويتغذّى بصبرٍ ومؤسّساتٍ رشيدة. التضحية التي تُنتج أمماً ليست تلك التي تُعني الإطفاء، بل تلك التي تُعنى بالتنوير والعمل المستمر: تضحيةٌ بالوقت، وبالجهد، وبالأنانية التي تُفضي إلى تخلفٍ جماعي.
هُم لا يحاربوننا فقط بقوة السلاح؛ بل يهاجمون لحمتنا الثقافية بقنواتٍ أقل وضوحًا: اقتصادٌ يَجعلنا مستهلكين بلا مبدأ، وسياسةٌ تُفقدنا قرارنا، وسردياتٌ جديدةٌ تُحاول طمسَ صيغ الوجود التي حملناها عبر الأزمنة. وهنا تكمن الخسارة الحقيقية: ليست في الأرض وحدها، بل في الروح التي تذبل حين تُقنع بأنها ليست جديرةً بالقرار.
الواجب الفلسفي يطالبنا بأن نعيد سؤال الكرامة: هل نرغب أن نكون موضوعًا أم فاعلًا؟ الفاعل لا يختزل مقاومته في تنديدٍ عاطفي، بل في تصورٍ للبديل: مؤسّساتٍ تعلّم الحرية والفكر الناقد، اقتصادٍ يستعيد القيمة المحلية، ونظامٍ سياسيٍ يضمن مواطنةً حقيقية لا اسمًا فارغًا. المقاومة هنا عقلانية — مواجهةُ أفكارٍ بأفكار، ومؤسّساتٍ بمؤسّسات، ومعرفةٍ بالجهل.
ومن يظنُّ أن الصمت براءة فهو مخطئ؛ الصمت حكمةٌ في مواضع، لكنه خيانةٌ عندما يتحوّل إلى استسلام. لأنّ من يترك مصيره في يد غيره يكون قد قبل الدور الضائع ليتحوّل إلى شاهدٍ على تفريطه. الدفاع عن الهوية ليس تعنّتًا جامدًا، بل حمايةٌ لحق الاختيار ولفضاءٍ يمكن للأجيال أن تُصوغ فيه أسئلتها وإجاباتها.
إن نصرنا لا يقاس بعنفٍ ولا بتدميرٍ، بل بقيام مجتمعٍ يملك أدواته للحديث عن نفسه: مدارسٌ تُعلّم النقد لا التلقين، مؤسّساتٌ تُدار بحسّ المسؤولية، ومشهدٌ عامٌّ يسمح بتنافسٍ صحيٍّ للأفكار يخدم الصالح العام. هذه هي القوّة الحقيقية: أن نصبح موضوعَ التاريخ لا مادةً له.
فلنبدأ إذًا من هنا — من السؤال المتأنّي والعمل الممنهج. نزرع بذرة الوعي اليوم لنحصد صباح الغد، ونصوغ مصيرنا بفكرٍ واعٍ وممارسةٍ متأنّية. هل للحكمة أن تشتغل؟
التعليقات