تعد النزعة العقلية (أو العقلانية) تيارًا فلسفيًا ظهر نتيجة لموقف الفلاسفة من المفاهيم المرتبطة بالعقل والمعرفة، وهو من المفاهيم الأساسية في نظرية المعرفة التي تندرج تحت مبحث الأبستمولوجيا في الفلسفة. يقوم هذا التيار على الاعتقاد بأن العقل هو المصدر الأساسي للمعرفة، وأنه قادر على الوصول إلى الحقيقة دون الحاجة إلى التجربة الحسية.

ويُنظر إلى النزعة العقلية في الغالب على أنها تيار مثالي، يسعى إلى إضفاء سلطة التفكير العقلي المستقل بعيدًا عن أي تدخل خارجي، سواء كان دينيًا، اجتماعيًا، أو سلطويًا. وقد ظهرت النزعة العقلية في مختلف الفلسفات عبر العصور، من الفلسفة اليونانية إلى الفكر الإسلامي، وصولًا إلى الفلسفات الحديثة.

1. النزعة العقلية في الفلسفة اليونانية

تميّزت الفلسفة اليونانية بتركيزها على قدرة العقل في إدراك الحقيقة، وظهر ذلك جليًا عند الفلاسفة الكبار مثل سقراط، أفلاطون، وأرسطو.

سقراط: كان العقل عند سقراط مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالأخلاق، إذ رأى أن المعرفة هي الفضيلة، والجهل هو الرذيلة، مؤكدًا أن الإنسان لا يمكن أن يسلك الطريق الصواب إلا إذا كان عارفًا به، ولا يخطئ إلا بسبب الجهل.

أفلاطون: طوّر أفلاطون هذا المفهوم من خلال نظريته حول عالم المثل، حيث اعتبر أن المعرفة الحقيقية ليست مستمدة من الواقع الحسي، بل من التأمل العقلي في المثل. كما هاجم السفسطائيين الذين جعلوا المعرفة ذاتية ومتغيرة، ودعا إلى أن يكون الحكماء (الفلاسفة) هم القادة، لأنهم وحدهم من يدركون الحقائق الثابتة بالعقل.

أرسطو: قدم أرسطو رؤية مختلفة، حيث أكد على أهمية المنطق كأداة رئيسية للوصول إلى المعرفة، وكان يرى أن العقل والتجربة معًا يؤديان إلى الفهم الحقيقي للعالم.

2. النزعة العقلية في الفلسفة الإسلامية

لم تقتصر النزعة العقلية على الفلسفة اليونانية، بل وجدت مكانًا لها في الفلسفة الإسلامية، حيث حاول الفلاسفة المسلمون التوفيق بين العقل والوحي، وكان ابن رشد أبرز رواد هذا التيار.

ابن رشد: يُعتبر عميد النزعة العقلية في الفلسفة الإسلامية، وقد سعى إلى إثبات توافق العقل مع الشريعة الإسلامية. من أبرز أفكاره:

أكد أن العقل والشريعة لا يتناقضان، لأن كليهما صادر عن الله، ولا يمكن للحق أن يناقض الحق.

تناول هذه المسألة بوضوح في كتابه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، حيث بين أن التأمل العقلي لا يتعارض مع الدين، بل يعزز فهمه.

لم يكن مجرد مترجم للفكر اليوناني، بل كان مفكرًا نقديًا، راجع أفكار أرسطو وقام بتصويب ما رآه خاطئًا وفق رؤيته الفلسفية والإسلامية.

تمثل النزعة العقلية تيارًا فكريًا محوريًا في الفلسفة، حيث يؤكد أن العقل هو الأداة الأساسية لاكتشاف الحقيقة. وقد اختلفت تطبيقاتها بين الفلسفات اليونانية والإسلامية، لكنها بقيت حجر الأساس في الجدل الفلسفي حول المعرفة، الحقيقة، والسلطة الفكرية.

لا يزال السؤال قائمًا: إلى أي مدى يمكن للعقل وحده أن يكون كافيًا للوصول إلى الحقيقة، دون الحاجة إلى مصادر أخرى؟