قبل ستة أشهر من الآن أطلقت وكالة ناسا مرصادها الفضائي: تلسكوب "جيمس ويب" الأكثر دقة، مشيرة إلى أن تكلفته بلغت 10 مليارات دولار، على أساس أن البشرية كلها اليوم تضع على عاتق هذا التلسكوب مهمة البحث عن كوكب صالح للعيش، كما يبدو هذا ظاهرا من خلال أجهزة الرصد التي تضمنها التليسكوب (18 مرآة: المرآة الأساسية الاكثر دقة وكبرا مما أتاحه مسبار هابل)، حيث جعلت من ضمن مهامه الأكثر طموحا، بحسب مدير المشروع، محاولة رصد أبعد الأجرام عن الأرض. وهذه الصورة الملتقطة قبل ساعات قليلة وصفتها ناسا بأنها الصورة الأكثر دقة ووضوحا التي التقطة للكون حتى الآن.

نلاحظ في الصورة الملونة جزء من الكون المكتشف، هذا ليس كأي جزء، لأنه نقطة تضم مجرات تشكلت بعد أقل من 800 مليون سنة من "الانفجار العظيم"، ولأننا نلاحظ شكلا مخروطيا في كيفية اصطفاف المجرات فإن تلك النقط المضيئة بشكل خافت، هي الأكثر قربا لنقطة بداية الانفجار. وقد تم رصد هذه الصورة في نقطة "لاغرانج 2" وهي نقطة من نقاط لاغرونج Lagrangian points حيث تتوقف المركبات الفضائية.

هلا تركنا هذه التفاصيل المملة الآن!!

على إثر هذه الصورة المتداولة إلى حد أن الرئاسة الأميركية تبنتها بوصفها حدثا تاريخيا مهما، يقفز إلى الذهن سؤال، وهو:

لماذا نكتشف الفضاء، ولماذا العلم التقني اليوم يضع على عاتقه مهمة اكتشاف أرض صالحة للعيش؟ وعلى أي أساس واقعي، اجتماعي واقتصادي، تنفق أموال طائلة ومعادن ثمينة من أجل تحقيق هذه الغاية؟

إن سؤال الغاية هذا، وقيمة هذه الغاية، تتبدى ملامح حقيقته حينما نتنبه إلى أن جدوى العلم المعاصر على شاكلة العلم التقني مثلا، تتجلى في مآلات التقنية المعاصرة، البيوتكنولوجيا مثلا، وأفق الغياب المطلق للإنساني (ونتذكر هنا أطاريح الإنسان الأخير وأفول المعنى موت الإنسان: فوكو ومفكري مدرسة فرانكفورت، نهاية التفكير: هايدغر... ) أو أفق نسيان الوجود الإنساني في هذا العالم. حينئذ تنبثق أسئلة المصير، أسئلة تتجه صوب الإنصات إلى نداءات الوجود: ما التقنية؟ ما الفكر؟ ما الإنسان؟ ما العلم؟

قد تكون نظريةُ العلم المعاصر بمثابةِ برهانٍ للحداثةِ على صدقِ "مقولةِ التقدم" لكن لماذا لم تستكمل هذه المَقولةُ غاياتها، الإنسانَوِيَّة؟ هل ثمَّةَ خللٌ غائيٌّ في العلم نفسِه، في كيفية التقدم الصحيح، أم أن ثمة تعكيسٌ لمسارٍ تاريخي ما؟

هناك اتجاه ضمني واضحةٌ معالمُه من خلال منظورات العَوَاّم، يعني التقدم: التكنولوجيا، الطب التقني، المال وريادة الأعمال، والتقدم العلمي، ورقمنة المجالات المهنية، والتعليمية... إن هاته الأمور تبدو من منظور العقل العامي أنها الأجدر بالاهتمام، والأكثر قيمة.

فلنقارن إذن هذه القيمة، بقيمة تلك المكتشفات الفلكية اليوم، من منظور فلسفي:

ولأول وهلة يظهر في صميم المسألة أن هناك طابعا عاما يسود فرضية التقدم العلمْ-تقنيّ، وهو الاتجاه نحو عالم آلي، حيث يكون الإنسان في اغتراب روحي عن ذاته، ولا يدري أهو مجرد أداة وظيفية، أم مشاعر وانفعالات فردية، خاصة! قد لا نجد لهذا الإيتوس Ethos المألوف أي تفسير سوى أنه تفسير الحداثة ذاته لماهية العلم: السيطرة على الطبيعة، ومن بعدها أتى هايدغر يؤكد على دور التقنية الاستغلالي في الهيمنة على كل بقع العالم الأرضي.

هل ثمة إذن غاية من هذا المكتشف الحالي؟ واضح أن هناك غاية، إنها إثارة الشعور العالمي وتهييجه في أفق تحرير نظرته الإنسانية: الأرضية، نحو الكون الواسع. ولكن ضمنيا، قد تكون حجة البحث عن مكان صالح للعيش التي يلقي بها العلم في مسامع الجمهور المؤدلج، فكريا، بآيديولوجيا العلم، محط شكوك، وموردا لكثير من التساؤلات:

هل الأرض لم تعد صالحة للعيش؟ لماذا؟
هل العلم هو الأمل الوحيد للنجاة من الكارثة البيئية؟
هل العالم الإنساني مهدد بالانهيار في حالة دمار الأرض؟
هل هناك تقنيات متطورة تساعد ملكة التكيف البشرية لتتأقلم في وسطها الجديد؟
ما الحياة الجديدة؟ ما الثقافة؟ ما المعرفة؟ ما المصير؟ ما الإنسان؟ ما الأخلاق؟ ما المجتمع؟ ما الحقيقة؟

لا شك في أن ناتج هذه التوجهات العلمية الراهنة قد تغير مجرى التاريخ الإنساني، أو تقلبه رأسا على عقب، وقبل الحسم في قيمة هذا الناتج، لابد من تأكيد حقائق، أهمها:

  • أن التقدم العلمي مؤسس على الاستغلال، واستنزاف الثروة الخالصة للأرض، وترك مخلفات مضرة بالبيئة؛ فما ندري من أي جهة هو علم يتقدم!؟
  • أن طبيعة النظرية العلمية المعاصرة لا تختلف في جوهرها عن طبيعة المهن الأخرى: إن العلم التقني كعالم التصنيع وعالم البيزنس، استهلاكي: يستنزف الثروات الأرضية في سبيل الابتكار "اللاعقلاني" وهذا الاتجاه يبدو كشراء سيارة من طراز مرسيديس وبعد تفوق شركة تسلا أو طويوطا عليها من ناحية السرعة والكلفة وتقنيات أخرى، أرمي تلك القديمة وأشتري هذه الجديدة.

يبدو أننا تماما أمام الاستهلاك اللامعقول، وما تطرحه هذه الثقافة، هو أزمة المسؤولية: أنا لست هنا بصدد محاكمة العلم، لكن يكفي فقط أن تعيد نظرك، في تلك الغاية وتتأمل جيد في واقعنا الراهن، إنك لا محالة ستكتشف أن الأرض لن تعود بعد قرن على الأكثر قادرةً على تلبية حاجات الإنسان البسيطة، بسبب العلم التقني، بسبب ثقافة الإنسان المعاصر، بسبب التوجه التاريخي، ويكفي أيضا أن نلقي نظرة بسيطة إلى الساحة الفلسفية المعاصرة لنجد أن الغياب الواضح لفلسفات الأمل وانتشار العدمية وانبثاق فلسفات التشاؤم دليل على أزمة الوضع الراهن.

إن المتأمل في هذا الوضع سيدرك أن مقولات كــ: التقدم، الحرية، المعنى، الإنسانية الكونية... قد غَدَت مجرد نكتة.

طُرح سؤال بخصوص هذا الموضوع: هل تهفيت الميتافيزيقا الكلاسيكية بالعقل الفلسفي الكانطي قد تجاوزه العلم؟

ومن غير الواضح لنا بأي وجه من الوجوه أتجاوز العلم مقولة الأنوار الأبرز أم أنه تراجع بالإنسان وتخلف عن مجرى التاريخ؟

كتابة: م. أكرام.