أجد هنا، في وسائل التعبير التي ابتكرها الإنسان، مجموعة من الأسئلة التي تهم مجموعة من العلاقات بالإبداع؛ علاقتنا بالكتابة، الرسم، التمثيل، الغناء، الرقص، التصوير والسينما:
- كيف يمكن للعواطف (الشعور) أن يحكم اللمسة الإبداعية عند الإنسان؟
- ما الأساس الإبداعي الذي ينطلق منه الإنسان؟
- هل يمكن اعتبار "الإلهام" أو "الخيال" أو "الشعور" هو هذا الأساس؟
- ما هو الفرق بين مفهوم الخيال عند كل من أفلاطون وأرسطو؟
1- أفلاطون:
بالأساس يعارض هذا الفيلسوف كل عمل فني، بل يقول بأن على الدولة أن لا تثق بالفنانين، ولا الكتابة باعتبارها فنا تعبيريا؛ مع العلم أن أفلاطون هو نفسه لم يخلُ أي موضوع فلسفي راود ذهنه يوما من كتابة فلسفية، محاورة.
لماذا هذه النظرة السلبية تجاه الفن عند أفلاطون؟
- أولا دعونا نسلط الضوء على مصدرية الإبداع الفني في تصور الثقافة الإغريقية؛ ولنتحدث عن الخيال [فانتاسيا، باللغة الإغريقية] باعتباره هو الأساس الذي يحكم العمل الإبداعي حسب هذه الثقافة؛ ولئن صُنف الخيال ضمن المنافذ المعرفية والتصور الذهني للعالم، فإن هذا الأخير هو الذي يجب أن نتفق بأنه إما حقيقة أو زيف، لنصوغ بعدها وضعية اعتبارية للصورة التي ينتجها الخيال، ومن ثم الحكم على الصورة الإبداعية نفسها المنبثقة انطلاقا من هذا المصدر.
لا شك أن ثمة لُبْسا حقيقيا في مفهوم "العالم" في جميع الحقول المعرفية التي تتناول هذا المفهوم؛ وبدورنا يهمنا تصور العامي، المشترك، لهذا العالم، فيما إذا كان ثمة أمر تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد هو أن الحس المشترك سيقول، باستعمال الإدراك المباشر (أي الإحساس)، بأن العالم: الواقع متعين، هو عالم حقيقي، وبالتالي فهذا الذي يعتبر عنده حقيقة سيدفعه مباشرة، وهنا وجب التنبه، إلى تقرير واقعية ومصداقية الفن. هذا هو الواقع الإغريقي الذي لا يختلف كثيرا عن واقعنا الآن تجاه السينما (أبرز فن حاليا)، بحيث أنه حينما امتزجت التخيلات الدينية عند الإغريق بالواقع الاجتماعي المشترك، ولد الفن: المسرح، الشعر، الأناشيد والأغاني، والرقص الاحتفالي...
هنا برز حقبة ثقافية جديدة، حقبة الفكر، فتطور آليات التعبير الفني ومناقشته لمجموعة من القضايا المجتمعية أجّجَ الحس النقدي لدى الإنسان الإغريقي، فأدى هذا إلى أن أنتج الإغريق فلسفة خاصة بهم. أي تدرج الوعي النقدي بالعالم لتصل إلى مرحلة الأسئلة الفلسفية الكبرى: الوجود، الإنسان، الأخلاق، المثل العليا، السياسة، الطبيعة، الحقيقة...
لقد أصبح العالم مفهوما يعبر عنه بمفهوم "الوجود" في الفلسفة... وطبعا هناك الأيونيون الذين يقولون في مجمل فلسفتهم بأن الوجود هو هذا الذي نراه، وهو تحكمه عملية التغير والصيرورة، كل يوم، حتى قال أحدهم (وهو هيراقليط) "لا يمكنك أن تنزل النهر نفسه مرتين"، وهناك البارمينيديون (الإيليون مدرسة تشكلت في إيطاليا) يقولون بأن الوجود في حالة ثبات، وهو موجود، في حين اللاوجود غير موجود.
بينما تتبلور مشكلة الوجود عند الفلاسفة، كان الظاهر منها أنها قد أغفلت مسألة غاية في الأهمية وهي: إن كان هذا الواقع الذي نراه حقيقيا، أو لا؟! والفلسفة الأفلاطونية في عمقها، هي محاولة فكرية، للإجابة على هذا السؤال.
طبعا، لم يكن أفلاطون على وعي بأنه سيقوم بإلغاء الفن، فقد كان شاعرا، وكاتبا، وقاده البحث الفلسفي إلى التساؤل عن المعرفة، وافترض قاعدة فلسفية أساسها أن المعرفة الحقيقية يجب أن تتأسس على موضوع، وجود، حقيقي، ثابت، ولما تأمل في هذا العالم، واستحضر معه قول هيراقليط، وجد بأن هذا العالم مجرد ظاهر، هو وجودٌ وسطٌ بين الوجود واللاوجود.
الخيال؛
رُبَّ سائل يسأل عن ما الذي أن يستنتجه أفلاطون من هذه النهاية التي انتهى إليها؛ والحق أن الجواب الذي قدمه أفلاطون كان جوابا "مثاليا": أي ان هناك عالما حقيقيا، لكننا لن نصل إليه إلا بتجاوز مجموعة من العقبات (هي ثلاثة) وهي بالمناسبة، تخص الذهن، أي المعرفة، فقال إن اللاوجود غير حقيقي (كما قال بارمينيدس) وتخلص من هذه المشكلة، ثم انتقل إلي العالم الحسي (الظاهر) وقال إن أشياءه ندركها لكن ستكون المعرفة المنتجة عن هذا الإدراك سرابا باعتبار أن تلك الأشياء في حالة تغير، لذلك حتى هي ليست حقيقية، ثم تحول إلى العالم الجوهري، المثُلْ، وقال إنه حقيقي. أين يحضر الخيال هنا؟
الخيال - إذا تعلق بالظاهر، العالم الوسطي- فإنه سيكون صورة ذهنية وهمية، زائفة، وبالتالي يجب أن يرتبط الخيال بالعالم الحقيقي، لكن هل يمكن ذلك؟
حينما رأى أفلاطون أن العقل مصمم على التصديق التلقائي للأشياء التي تظهر له كان من المستحيل فك الارتباط بين الخيال والإحساس.
فظهر حينها أن الخيال هو تشابه - محاكاة لظاهر يحمل مستوى من الوجود واللاوجود، وأصبح الخيال منتدبا في الفلسفة الأفلاطونية، وبالتالي الفن عموما.
ولو سادت هذه العقيدة إلى اليوم لما كان للإبداع الفني أن يصل إلى ما وصل إليه اليوم من تطور سريع.
نجد أن العائق المشكل لهذا العطب الفلسفي عند أفلاطون هو ارتباط الخيال بالمحاكاة، فلما كان الفن هو محاكاة لواقع ظاهر، باستعمال الصور التخييلية، كان من المفروض تزييف العنل الفني من أساسه.
على أمل أن أضيف تصور أرسطو فيما بعد.