كيف نجود بالنفس لله؟
تمهيد:
قال أسلم بن زيد الجهني:
"أما البخل عند أهل الدنيا فهو أن يكون الرجل ضنينًا بماله، وأما عند أهل الآخرة فهو الذي يضن بنفسه عن الله… ألا وإن العبد إذا جاد بنفسه لله أورث الله قلبه الهدى والتقى، وأعطي السكينة والوقار والحلم الراجح والعقل الكامل. (ابن الجوزي- صفة الصفوة: 2/457)
فأي منزلة أرفع من أن يجود المرء بنفسه لله؟
ولكن… كيف يكون الجود بالنفس؟
وهل هو مقصور على الشهادة في سبيل الله؟
أم أن أبوابه كثيرة وألوانه متعددة؟
أولًا: ما معنى أن تجود بنفسك لله؟
أن تجعل نفسك كلها – أعمالك، وقتك، مشاعرك، قدراتك – في خدمة رضا الله، وأن تُقدّمها لله عن طيب خاطر، كما يجود الكريم بماله.
إنه التفاني في الطاعة، والاستعداد للتضحية بأي شيء إذا تعارض مع رضا الله.
ثانيًا: صور الجود بالنفس:
1. الجهاد الحقيقي بالنفس:
قال الله:
{إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَ ٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَ} [التوبة: 111]
الشهيد هو أعظم صورة للجود بالنفس، ولكنها ليست الوحيدة.
2. الثبات على الحق عند الفتن:
أن تجود بنفسك لله يعني أن تصبر على الأذى، ولا تساير الباطل، ولا تخون دينك ولو كلّفك ذلك كثيرًا.
3. خدمة العلم والدعوة والتعليم:
أن تبذل جهدك وطاقتك ونفسك في نصرة الحق ونشر النور، لا تبتغي مالًا ولا شهرة، بل ترجو وجه الله.
4. القيام في جوف الليل:
أن تُجاهد نفسك عن فراشك الدافئ لتقوم بين يدي الله، هذا جودٌ عظيمٌ بالنفس في وقت الغفلة.
5. الصبر على البلاء والرضا بقضاء الله:
أن تجود بنفسك لله، يعني أن تُسلِّمها له، فلا تجزع، ولا تعترض، بل ترضى وتُسلّم.
6. ترك ما تهواه النفس ابتغاء وجه الله:
أن تترك معصية تحبّها، أو عادة تألفها، لا لشيء إلا لأن الله لا يحبها، هذا من أعظم الجود.
ثالثًا: آثار الجود بالنفس لله:
"أورث الله قلبه الهدى والتقى، وأُعطي السكينة والوقار والحلم الراجح والعقل الكامل."
العجب أن من يعطي نفسه لله، لا يخسرها، بل يُعطيه الله:
- عقلًا راجحًا
- سكينة في القلب
- نورًا في البصيرة
- مكانة عند الخلق والحق
رابعًا: لماذا لا نجود بأنفسنا بسهولة؟
لأن النفس:
- تألف الراحة
- تكره التنازل
- تحب الجاه والهوى
ولهذا كان المجاهد الحقيقي هو من كسر سلطان نفسه، وربطها بقيود العبودية.
قال بعض السلف:
"جهاد النفس مقدَّم على جهاد العدو."
خلاصة:
الجود بالنفس ليس مقامًا بعيدًا ولا حكرًا على الشهداء، بل هو طريق العارفين والصادقين في كل زمان.
هو أن تقول كل يوم:
"اللهم خذ نفسي إليك، لا تتركها لي، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين."
إن من جاد بنفسه لله، صار محبوبًا عنده، محفوظًا به، مسدّدًا في قوله وفعله، فلا تسأل بعد ذلك عن النور والبركة والسكينة.
التعليقات