أمام الواجهة الزجاجية يتوقف طفلك و يطلب منك أن تشتري له هذه الدراجة الهوائية، ترفض بدورك هذا الطلب و تشد يده لمواصلة السير، إلا أنه يعود ليطلب منك للمرة الثانية، و ترفض من جديد، بعد قطع مسافة بعيدة عن دكان الألعاب ذاك ترجو أن ينسى طفلك سؤاله و يتشتت بما يراه من بهرجة و زخرف الأسواق، إلا أنه يعود و يطلب منك للمرة الثالثة و الرابعة و الخامسة، و تواصل أنت رفضك اللطيف تارة و الحازم تارة أخرى، إنك متعب و منهك و يشغل بالك عشرات الهموم و المشاكل، أما طفلك فقد فرغ فؤاده إلا من شيء واحد و هو تلك الدراجة، لذا عندما تمران من أمام عشرات الدراجات الساطعة المتباينة باللون و الحجم يقع ما كنت تخشاه و يعاود طفلك الترجي و الإلحاح بوتيرة أشد و أسرع، و هنا تخسر أنت في هذا النزال النفسي و تشتري سكوته بدراجة هوائية، و عند هذه اللحظة يكون دماغ طفلك الغض قد تعلم وسيلة سوف يستخدمها طيلة حياته للحصول على مبتغاه و هي الإلحاح و الإلحاح و الإلحاح إلى ما لا نهاية.

أظن أن أمراً كهذا قد حصل لزميلي الملحاح خلال طفولته، انظر إليه و هو يعود للمرة الخامسة إلى غرفة المدير لطلب إجازة اضطرارية، أسمع نفس الشكوى عن زوجته التي تعاني من ٱلام في الظهر و نفس علة المدير لعدم إمكانية حدوث هذا بسبب الظرف الاستثنائي الذي تمر به الشركة، لم يتغير شيء منذ خمسة أيام و أنا أسمع الحوار ذاته، لا أنكر أنني بدأت أشعر بالضيق من رؤية انسان يلح بهذا الشكل الذي يقارب إلحاح المتسولين، بل إنني احتقرت هذا الزميل لقلة إبائه و أنفته، شعرت بالرضى عن نفسي حين قارنت نفسي معه تذ أنني نادراً ما كنت أطالب بإجازةً و لا أذكر متى كانت ٱخر مرة حصلت عليها، فلم أكن بحياتي كلها ذلك الانسان الملحاح مثل زميلي المزعج هذا، فاجأني هذه المرة بأنه حصل على إجازته، فقد عاد إلينا مستبشراً هذه المرة، دفعني ذلك للتساءل، كيف أقتنع المدير هذه المرة؟ و بماذا يختلف طلبه الأول عن طلبه الخامس، نفس الصيغة، نفس الكلمات، نفس الحجة، و نفس الزوجة المعطوبة، لم أجد فرقاً سوى أنها المرة الخامسة و حسب. نعم لا نخفي عليكم أيها القراء أننا كنا نتشارك بشعور من الغبطة و الحسد من هذا الملحاح في وسط اغتيابنا له و عن أساليبه الدنيئة.

لماذا ننهار أمام الإلحاح؟

يبدو أن الانسان يصرف طاقة أكبر في قول كلمة "لا" عن قول "نعم"، أو أن الرضوخ لإرادة الٱخر هو الأصل في طبيعة الانسان، و من هنا اكتسب فعل المقاومة سمعته الحسنة في سلوكيات البشر. و قد يكون الإلحاح أيضاً باعثاً لأعمق الرغبات في نفوسنا البشرية و هو شعورنا بالأهمية، لذا قد نماطل بلا وعي منا عن تلبية سؤال الملحاح لأننا نريد أن نشحذ هذا الشعور أكثر و أكثر.

صراحةً لا أدري ما السبب لكنه لا شك أن الإلحاح يأتي بثماره أحياناً.